امتناع نظام بشار الأسد عن الرد على الهجمات الإسرائيلية المتزايدة داخل الأراضي السورية يثير التساؤلات المتكررة حول دوافع هذا الموقف، الذي يكاد يكون فريداً في التاريخ.
من النادر أن تتعرض دولة لمئات الاعتداءات دون مبرر مقنع، وتمتنع عن الرد، حتى لو بشكل شكلي، مهما بلغت من الضعف وانعدام الشعور بالكرامة الوطنية. حتى لفظياً، لم يعد النظام يستخدم العبارة البالية حول الاحتفاظ بحق الرد "في الزمان والمكان المناسبين".
السؤال المطروح دائمًا: ما الذي يخشاه النظام من التصعيد مع إسرائيل؟ وهل يمكن أن يشكل مثل هذا التصعيد خطرًا حقيقيًا على النظام؟ وهل الامتناع عن الرد مبعثه حسابات عقلية وواقعية باردة تأخذ في الحسبان موازين القوى والتبعات المختلفة، أم مجرد مبالغة في التحوط، مصدرها خشية النظام على نفسه ومصيره، وليس على جيشه أو مقدرات البلاد؟ وهل لعدم الرد عوائد سياسية إيجابية على النظام والبلاد أكثر من الرد ضمن ضوابط ومعايير معينة؟
لقد شنت دولة الاحتلال الإسرائيلي منذ عام 2017 أكثر من 500 غارة جوية على الأراضي السورية، رغم أنها الجبهة الأكثر هدوءاً منذ عقود. وتزايدت وتيرة هذه الهجمات منذ 7 أكتوبر الماضي بعد عملية طوفان الأقصى على حدود غزة، وباتت تحدث بشكل شبه أسبوعي.
ينطلق هذا "الانضباط" من حقيقة أن جيش النظام غير جاهز للرد بعد سنوات من الحرب الداخلية المستمرة منذ عام 2011، بالإضافة إلى الوضع الاقتصادي المتردي.
في السابق، كانت إسرائيل تتجنب بشكل عام استهداف العناصر الإيرانيين أو التابعين لحزب الله في سوريا، لكن تغير الأمر في الشهور الماضية. وقد بلغ هذا التصعيد ذروته مع استهداف مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق مطلع أبريل/نيسان الماضي. يأتي ذلك ضمن إطار التصعيد بين إسرائيل وإيران وحلفائها، وخاصة حزب الله، ارتباطًا بالحرب في غزة، حيث تُعد الأراضي السورية إحدى ساحات هذه المواجهة.
ورغم بروز مؤشرات مؤخراً حول تذمر صامت من جانب إيران وحزب الله من سلبية النظام في دمشق تجاه التطورات الساخنة في المنطقة، إلا أن هناك كما يبدو "تفهماً" من جانبهم لموقف النظام. فهم لا يريدون التصعيد مع إسرائيل في الساحة السورية، خشية أن يطيح ذلك في نهاية المطاف بنظام بشار الأسد، ويتحول الاستهداف الإسرائيلي نحو أهداف حكومية وعسكرية ذات أهمية للنظام، مثل اغتيال مسؤولين كبار وضرب قواعد عسكرية رئيسية أو بنية تحتية مدنية مثل محطات الطاقة. قد يسبق ذلك توجيه ضربات لإضعاف الدفاعات الجوية السورية، ما يمكّن سلاح الطيران الإسرائيلي من العمل بحرية في الأجواء السورية.
ينطلق هذا "الانضباط" من حقيقة أن جيش النظام غير جاهز للرد بعد سنوات من الحرب الداخلية المستمرة منذ عام 2011، بالإضافة إلى الوضع الاقتصادي المتردي. فيما يتطلع النظام إلى تثمير هذا الانضباط في حملته الخارجية لاكتساب الشرعية الدولية والسعي لرفع العقوبات الغربية المفروضة عليه.
أما التبرير الرسمي للنظام لعدم الرد على الاعتداءات الإسرائيلية، فقد يدخل في باب الطرافة. فقد قال وزير الخارجية فيصل المقداد في إحدى المقابلات الصحفية إن إسرائيل تستغل مرور بعض الطائرات المدنية وتطلق النار من تحتها أو من فوقها. وفي هذه الحالة، عندما ترد الصواريخ السورية، فقد تصيب الطيران المدني، وبعد ذلك يقع اللوم علينا، ولذلك لا نتصدى لتلك الطائرات! من المفارقات أن هذا حدث فعلاً، وإن لم تكن الضحية طائرة مدنية. ففي عام 2018، عندما أطلقت الدفاعات الجوية للنظام السوري النار على طائرات إسرائيلية كانت تغير من جهة البحر المتوسط، أسقطت طائرة عسكرية روسية كانت متجهة إلى قاعدة حميميم، ما أدى إلى مقتل 15 عسكريًا روسيًا.
حسابات النظام لا تقوم على بناء قواعد لحد أدنى من الردع المتبادل مع العدو، بما يحفظ "هيبة الدولة" (كما حال حزب الله، وحماس قبل 7 أكتوبر)، بل تنهض بالكامل على غاية واحدة هي سلامة النظام.
ولكن من جانب آخر، ماذا لو تصدى النظام فعلاً للطائرات الإسرائيلية بجدية أكبر وتمكن من إسقاط بعضها، كما حدث في الحادثة الوحيدة في فبراير/شباط 2018، عندما أسقطت الدفاعات الجوية للنظام طائرة إف-16 إسرائيلية كانت تغير على الأراضي السورية؟ كانت تلك المرة الأولى التي تفقد فيها إسرائيل طائرة حربية منذ حرب لبنان عام 1982.
في ذلك الوقت، كان لدى النظام كما يبدو قرار بالتصدي للهجمات الإسرائيلية، لكن بعد حادثتي إسقاط الطائرة الروسية والطائرة الإسرائيلية في ذلك العام، تلقى النظام نصائح بـ"ضبط النفس" نقلتها روسيا من الجانب الإسرائيلي على صيغة تهديد، وهو ما جعله يتراجع ويعيد تكييف موقفه. وبات النظام يتقبل حقيقة أن الضربات الإسرائيلية سوف تتواصل داخل سوريا، ولكنها لن تطول رموز النظام أو ما يؤثر في بنيانه المتصدع أصلاً، إلا إذا حاول النظام عرقلة هذه الضربات أو تصعيبها على إسرائيل. فباتت الضربات منذ ذلك الحين تتم بسلاسة، ودون كلفة تُذكر على إسرائيل، في ظل توقف النظام عن استخدام الصواريخ التي بحوزته، ومنها "سام 5" (إس-200) الذي أسقط الطائرة الإسرائيلية، والاقتصار على محاولة اعتراض الصواريخ التي تطلقها الطائرات الإسرائيلية، وليس الطائرات نفسها.
حتى مستويات متدنية من الرد، مثل إطلاق قذائف أو صواريخ كاتيوشا أو طائرات مسيرة صغيرة من الجانب السوري باتجاه الجولان المحتل، استغنى عنها النظام. وبالكاد تحصل بين الفينة والأخرى على أيدي عناصر تابعين لميليشيات مدعومة من إيران، وليس قوات النظام. ويسمح بها النظام على مضض، شريطة أن تسقط في مناطق مفتوحة وألا تتسبب بسقوط إصابات في الجانب الإسرائيلي، تجنبًا لأي رد قوي.
إذن، حسابات النظام لا تقوم على بناء قواعد لحد أدنى من الردع المتبادل مع العدو، بما يحفظ "هيبة الدولة" (كما حال حزب الله، وحماس قبل 7 أكتوبر)، بل تنهض بالكامل على غاية واحدة هي سلامة النظام، وتمرير الضربات حتى لو تسببت في سقوط عشرات القتلى والجرحى، كما حصل أخيرًا في مصياف وطرطوس، على أمل أن يترجم هذا "الصبر الاستراتيجي" إلى جوائز للنظام بعد أن تهدأ أوضاع المنطقة. وهذا رهان في غير محله، لأن المطلوب إسرائيليًا، وتاليًا أميركيًا، هو بقاء نظام الأسد في حالة ضعف استراتيجي، ومعه سوريا كلها، في حالة تمزق وانقسام، واستمرار الوضع الراهن إلى أجل غير مسمى.