تنتشر "النكات" في المجتمعات منذ فجر التاريخ ولا يمكن أن يعيش مجتمع دون "نكتة" خاصة به، والنكتة سفيرة المجتمع بتناقضاته المختلفة، فإن كان المجتمع عنصرياً على سبيل المثال، فلا بد أن تتجلى عنصريته بنكاته. ولأن النكتة تكشف رغبات المجتمع الكامنة، فالبحث عن ماهية النكتة هو بحث في علوم كثيرة وموضوعات عديدة، هو بحث في أعراف المجتمعات وثقافة الجماعات، فكيف يمكننا تصنيف النكتة في عوالم الفن والفلسفة والأدب؟
النكتة تأريخ يكتبه المقهورون
لا يمكن معرفة مكان وزمان النكتة الأولى لأنها تنتقل مشافهة، ولعل النكتة الأولى المرتبطة باللغة المدوّنة تعود على الأغلب إلى الحقبة السومرية، حيث بدأت هناك الكتابة. إلا أن مصطلح "نكتة" حديث نسبياً، حيث خلص "عباس علي السوسوة" من خلال مسح لغوي لمصطلح "النكتة" بمصادرنا التراثية، إلى أن أول من استخدم هذا المصطلح بمعنى التعليق الساخر هو بديع الزمان الهمذاني في القرن العاشر الميلادي[i].
وأقدم نكتة مدوّنة في التاريخ بحسب ما تشير إحدى الدراسات، مكتوبة على ألواح بابلية تعود إلى عام 1900 قبل الميلاد، وتسيء هذه النكتة للنساء المتزوجات حديثاً. أما ثاني أقدم نكتة فتعود إلى مصر القديمة في عام 1600 قبل الميلاد، حيث تبدأ بسؤال: كيف يمكنك الترفيه عن فرعون يشعر بالملل؟ أنت تبحر في قارب محمل بالشابات يرتدين فقط شباك الصيد وينزلن إلى النيل ويقمن بحثِّ الفرعون على الذهاب لصيد سمكة. من خلال هذا المثال نلاحظ أن النكتة لا تثير الضحك وهذا طبيعي، كون النكتة ابنة نسق ثقافي اجتماعي، ولذلك تفشل النكات في إضحاك أشخاص يختلفون في الزمان أو المكان، نظراً لاختلاف الثقافة.
"الفكاهة أدب شعبي وطب نفسي"- عبد الحميد يونس
بعض الكتاب يصنفون النكتة كأدب شعبي[ii]. والمقصود بالأدب الشعبي هو ما ينتجه الناس، أدب حركي يتمتع بمرونة كبيرة، فكل من ينقله يضيف إليه شيئاً ويحذف أشياء، ولكن بعض دارسي نظرية الأدب لا يصنفونه من الأدب؛ ونرى أن بعض الجامعات لا تقبل دراسة النصوص المجهولة المؤلف كما هي الحال بالنسبة للنكات؛ إلا أن طه حسين كسر هذه الأعراف الأكاديمية عندما أشرف على رسالة ماجستير عن (ألف ليلة وليلة) لـ سهير القلماوي، وبعد ذلك دخل الأدب الشعبي الجامعات بصورة محدودة.
ويعتقد دارسو هذا الأدب أن أغلب النكات قديمة وأنها تتغير وفقاً لزمان ومكان المجتمع، كما تستفيد من الوسائل المتاحة. ويُلاحظ اليوم أن النكتة استفادت من وسائل التواصل الاجتماعي مثلاً، فتأخذ تارة شكل تعليقات خفيفة الظل على مشاركات ومنشورات جادة، وتكون ذات سخرية مبطنة تارة أخرى بحسب شخصية الكاتب والمعلّق، وهلم جرّا. ويبدو أن جدران الفيس بوك أضحت اليوم بديلاً عن أوراق "الروزنامة" التي كانت سفيرة النكات لفترة طويلة من الزمن.
واللافت أن النكات تصنع شخصيات خيالية لتروى من خلالها، ففي الثقافة العربية هناك "جحا" يقابله "نصر الدين هوجا" في الثقافة التركية، وكلاهما يدعيان الجنون ليمررا الحقائق عبر هذا الجنون المدّعى. النكتة لقيطة ولا يعرف لها أب شرعي، ولا مسقط رأس ولا تاريخ ميلاد، لذلك نجدها كالرصاصة الطائشة لا تخاف ناقداً، فقد بقيت النكات لعصور طويلة عصية على النقد وترفض أن تتأطر بقواعد وأسس.
النكتة والفن
فن رواية النكتة يندرج، بحسب كَنط، تحت مظلة الفنون الملائمة، حيث يقسم كنط الفن الجمالي إلى فنون ملائمة تهدف إلى المتعة وفنون جميلة تهدف إلى تثقيف الذهن وتربية ملكات النفس[iii]. ويعتبر أرسطو أول من رفع شأن النكتة إلى مستوى الفن والجمال، فقد اعتبر أن "العنصر الضار والقبيح، حتى وإن بدا ضرورياً لإثارة الضحك فهو غير مرغوب فيه". إلا أن كلام أرسطو بقي نظرياً فالنكتة غير بريئة، وهي غالبا ما تحقر الآخرين وتسخر من أفكارهم، ويمكن أن تكون عنصرية كما سبق وذكرنا، وقد تسفه مقدسات الآخرين. ولعل النكتة التي ألقاها الممثل الكوميدي كريس روك على زوجة الممثل ويل سميث في حفل توزيع جوائز الأوسكار دليل على أن النكتة قد تؤذي وقد تكون ضارة، خلافاً لرؤية أرسطو لفن النكتة.
تتمتع النكتة بجوامع الكلم "فنكتة واحدة يفهمها السامع خير من مئة درس في المنطق" بحسب رأي المفكر والكاتب المعروف عباس محمود العقاد.
أرسطو رفع من شأن النكتة، ونظّر لها فجعلها أحد وجهي التأليف في الشعر "الكوميدي"، فالنكتة عنده أساس الملهاة التي هي "محاكاة للأراذل من الناس، لا في كل نقيصة، ولكن في الجانب الهزلي بغير إيلام ولا ضرر"[iv]. لا تقتصر النكتة على القول بل تتعداه لفنون أخرى كالكتابة والموسيقا حيث تعرف النكتة بأنها "فن من فنون الكتابة أو الكلام أو الموسيقا، مثير للضحك"، وكذلك يمكن اعتبارها "عملاً درامياً مستقلاً بذاته له تركيبة أدبية مضغوطة ومكثفة" كما يقول جابر قميحة.
"لو أن الشيطان ابتسم لما طُرد من حضرة الله"- برنارد شو
كان سقراط يسأل تلاميذه أسئلة ساذجة بديهية، ثم ينقض تلك البديهيات بأخرى مثلها، هذه مفارقة بين مقدمة محكمة ونهاية غير متوقعة تبعث على الضحك أو الدهشة، بعد ذلك يطرح تفسيراته المنطقية[v]. يفسر كيركيغارد هذه الدهشة أو الضحك بـ "وجود تناقض، وحيث يوجد تناقض يكون المضحك موجوداً"، وبصرف النظر عن تفسيرات الضحك المختلفة فهو ضروري للتخفيف عن أعباء الحياة، فالنكتة هي السبيل الوحيد لعودة إنسانية الإنسان "فلا مضحك إلا ما هو إنساني، والنكتة هي محاولة قهر القهر.. وهتاف الصامتين" وفق قول هنري برجسون. كما تتمتع النكتة بجوامع الكلم "فنكتة واحدة يفهمها السامع، خير من مئة درس في المنطق" بحسب رأي المفكر والكاتب المعروف عباس محمود العقاد.
النكتة كالرصاصة تخترق حواجز النفس، وتشكل عند المتلقين وعياً داخلياً دائماً، فغالباً ما يظن الناس أن مجتمعاً ما غبي نتيجة كثافة النكات التي تتحدث عن غبائه، لذلك لا غرابة أن تكون بعض النكات مسيّسة تستخدمها أجهزة السلطة ضد معارضيها، كما قد يستخدمها الشعب ضد السلطة، فكلما ضاقت حرية التعبير زادت النكتة لتكون "الثأر السلمي العادل لجماعة الضعفاء" كما يقول إبراهيم عبد الله غلوم.
وللإجابة عن السؤال حول تصنيف النكتة، نجدها بكل بساطة أدباً وفنّاً وفلسفة، وتاريخاً لم يدونه المؤرخون، وعلاجاً نفسياً قبل وجود أطباء نفسيين. فيها شفاء لصدور متألمة، وهي سجلّ الإنسانية الذي يوثق صراعات الإنسان الاجتماعية وكبواته السياسية وتحيزاته المعرفية.