تعدّ هزيمة حزيران 1967 حدثاً مفصلياً في التاريخ العربي والسوري، ولطخة سوداء في سجل الأنظمة الحاكمة وقتئذٍ، وفي مقدمتها النظام السوري الذي كان وما يزال متدثراً بغطاء القومية ومقاومة "إسرائيل". وكحال كل تاريخ سوريا المعاصر لم يتمكن أي كاتب سوري داخل البلاد من تناول الموضوع بطريقة علمية لأسباب أهمها استمرار نظام الحكم نفسه الذي كان قابضاً على السلطة متمثلاً بوزير الدفاع وقتئذ اللواء حافظ الأسد وجماعته الذين سيزيحهم لاحقاً ويستفرد بالسلطة رئيساً "أبدياً" لسوريا ويخلفه ابنه حتى اليوم.
هذه الاستمرارية الطويلة لنظام ديكتاتوري تعني عدم توافر أجواء الحرية الضرورية لكتابة تاريخية أكاديمية. فتجاوز الخطوط الحمر كهزيمة حزيران والحديث فيها أودت بأصحابه إلى الهلاك؛ كـ"دريد مفتي" الوزير السوري المفوض في مدريد عام 1967 الذي اغتيل، والمحامي زهير الشلق الذي أُختطف وقضى سنوات في السجن لأنه كتب في صحيفة الحياة البيروتية مقالاً ورد فيه جملة (أسد عليّ وفي الحروب دجاجة)، وخليل مصطفى (بريز) الذي اختُطف وقضى أكثر من ربع قرن في السجن! ما جعل أغلبية من شهدوا تلك الحقبة يلزمون الصمت ويحجمون عن كتابة مذكراتهم أو نشرها أو الإدلاء بشهاداتهم التي تعدّ مصدراً مهماً للكتابة التاريخية، بل شبه وحيد في الحالة السورية التي لا تتاح فيها أي مواد أرشيفية بعد 1963، ولا يوجد فيها أصلاً قانون ينظم عملية حفظ أرشيف الدولة وإتاحته.
لقد سببت هزيمة حزيران والمسؤولية عنها خلافات عميقة في سوريا بين رجال السلطة أنفسهم وخصومهم، مما أنتج روايات متناقضة. ونتيجة استمرار من هُزِموا في حزيران في السلطة وحساسيتهم المفرطة من كل ما يتعلق بها، سادت في سوريا لزمن طويل روايتان قصيرتان مبهمتان: الأولى علنية، ملخصها أن "إسرائيل"، وبمساعدة الإمبريالية العالمية والغرب، وبمساندة الرجعية العربية وخيانتها؛ اعتدت علينا مما تسبب بالهزيمة. دون تفاصيل، ودون حتى ذكر كلمة الهزيمة التي ليس لها مكان في حياة "الأبطال". ويلحق بهذه الرواية أن العدوان فشل لأنه لم يحقق هدفه بإسقاط حكم البعث التقدمي في دمشق. أما الرواية الثانية، التي تم تداولها سراً، فتُحمّل نظام الحكم القائم آنذاك، وخاصة وزير الدفاع، كل المسؤولية. دون النظر إلى أي اعتبارات أخرى أو تفاصيل قد تكون أسباباً إضافية للهزيمة. وسرعان ما ظهرت هذه الرواية في هتافات المتظاهرين مع انطلاق الاحتجاجات الشعبية في سوريا عام 2011، من خلال نعت بشار الأسد بـ"ابن بائع الجولان".
تقدّم الرواية تسلسلاً للأحداث -يحوي العديد من التناقضات- يخدم النتيجة النهائية التي تريد إيصالها للقارئ والتي تتناغم مع مقولة أن هدف العدوان كان إسقاط نظام الحكم التقدمي في دمشق
لم تظهر في سوريا رواية رسمية مكتوبة لحرب حزيران حتى عام 2002، عندما أصدر مركز الدراسات العسكرية كتاب "تاريخ الجيش العربي السوري" الذي أعده فريق من الباحثين العسكريين بإشراف العميد المتقاعد رزق إلياس، واعتُمد على الموقع الرسمي لوزارة الدفاع. ويعدّ هذا الكتاب أول رواية رسمية فيها شيء من الواقعية، رغم سيطرة اللهجة التبريرية عليها وتغاضيها عن كثير من القضايا في الجيش وعن الأزمة السياسية التي كانت في سوريا وأثرت على جاهزيته. تقدّم الرواية تسلسلاً للأحداث -يحوي العديد من التناقضات- يخدم النتيجة النهائية التي تريد إيصالها للقارئ والتي تتناغم مع مقولة أن هدف العدوان كان إسقاط نظام الحكم التقدمي في دمشق. ولكن ما لم يتم سرده في الرواية جرى الاعتراف به ضمناً في فقرات لاحقة من الكتاب عند الحديث عن الدروس المستفادة من الحرب، أو عند الحديث عن عملية إعادة بناء الجيش بعد 1967. فتم الاعتراف ببعض ما كان يجري داخل الجيش، كنقص الضباط العاملين وكثرة ضباط الاحتياط، دون ذكر سبب النقص وما حدث للضباط السابقين.
كما يُذكر عمل وزير الدفاع الأسد الذي رُقي إلى فريق بعد الهزيمة على حل مشكلات الجيش عبر تشكيل لجنة في مطلع 1968، برئاسة مصطفى طلاس رئيس هيئة الأركان الذي رُقي أيضاً استثنائياً إلى لواء مع سيده، كانت مهمة اللجنة دراسة إعادة تنظيم القوات المسلحة وتحديد حجمها وتشكيلها. وعلى ما يبدو تابعت اللجنة المذكورة عمليات الهيكلة السلبية للجيش، وكانت فرصة للأسد لزيادة عدد الضباط الموالين له واستبعاد خصومه، حين كان الصراع بينه وبين صلاح جديد قد وصل أوجه. فهول الهزيمة لم يمنع الرفيقين من متابعة صراعهما.
قبل ظهور الرواية الرسمية لحرب حزيران، ومع عصر الاتصالات، ظهرت العديد من الشهادات المكتوبة أو المتلفزة لشخصيات كانت جزءاً من الحدث أو قريبة منه. ويرجح أن ظهورها كان أحد أسباب ظهور الرواية الرسمية. وبعد اندلاع الثورة السورية وسقوط حاجز الخوف وتشتت السوريين في الأرض بعيداً عن قبضة النظام بدأت تظهر روايات وشهادات عن كثير من الأمور التي كان مسكوتاً عنها ومنها حرب حزيران.
يمكن القول إن شهادات السوريين تمثل الرواية غير الرسمية للحرب، وكل منها يحمل جزءاً من الصورة. ومنها رواية منصور سلطان الأطرش المقتضبة عن الحرب في كتابه الضخم "الجيل المُدان- سيرة ذاتية". أما سامي الجندي، سفير سوريا في فرنسا عند وقوع الحرب، فقد حمّل، في كتابه "كسرة خبز"، شخصيات النظام القائم آنذاك مسؤولية الهزيمة. أما ضابط الاستطلاع خليل مصطفى (بريز)، في كتابه "سقوط الجولان"، فيعتبر الحرب مؤامرة كبيرة، ويحمّل السلطة القائمة آنذاك، وخاصة العسكرية، مسؤولية "الخيانة". وهناك شهادات شخصيات سورية كانت في أعلى هرم الدولة آنذاك؛ كرئيس الوزراء يوسف زعيّن، ووزير الإعلام محمد الزعبي، والصحة عبد الرحمن الأكتع، والخارجية إبراهيم ماخوس. وشخصيات أخرى كانت عاملة على الأرض؛ كالعميد الطبيب عادل حسني باشا مدير المشفى العسكري في القنيطرة، واللواء المهندس محمد راجي غزال أسود الذي كان عميداً في سلاح الهندسة بالجولان. وشخصيات سياسية أخرى؛ كأحمد أبو صالح، وعدنان سعد الدين، وأمين الحافظ. وكل هذه الشخصيات حمّلت القائمين على السلطة آنذاك وخاصة حافظ الأسد المسؤولية الرئيسية عن الهزيمة. هذا ولا بد من لفت الانتباه إلى ضرورة التعامل بصرامة علمية مع المذكرات والشهادات الشخصية وضرورة مقارنتها بالمصادر الأخرى لأن أكثر من كتبها ينتمي إلى أطراف متصارعة مما قد يؤثر في ما قدّمه.
وعن أسباب الهزيمة فإن الجيش السوري كان يعاني من اختلالات بنيوية عشية الحرب. فمنذ حرب فلسطين 1948 وحتى 1967 خضع لعمليات إعادة هيكلة سلبية متعددة
في المجمل يمكن الخروج بتصور عام لما جرى خلال الحرب. فبعد أن دمرت "إسرائيل" سلاح الجو السوري استطاع جيشها احتلال الجولان رغم تمكن بعض فرق الجيش السوري من إعاقة تقدمه لأربعة أيام، قبل أن يتابع في 10 حزيران دون مقاومة تذكر، في حين لا تزال أسباب الانسحاب مجهولة. وللمفارقة فإن البيان 66، الصادر عن وزير الدفاع الأسد، أعلن سقوط مدينة القنيطرة عاصمة الجولان قبل وصول الإسرائيليين إليها، بشهادة وزير الصحة عبد الرحمن الأكتع الذي كان في زيارة للمدينة، وهاتَفَ منها الرفيق "أبو سليمان" الذي شتمه لتدخله في ما لا يعينه.
وعن أسباب الهزيمة فإن الجيش السوري كان يعاني من اختلالات بنيوية عشية الحرب. فمنذ حرب فلسطين 1948 وحتى 1967 خضع لعمليات إعادة هيكلة سلبية متعددة؛ كالتسريح، والإعدامات، والسجن، والنفي. تركت آثارها المباشرة عليه وجعلت قادته ينغمسون في صراعات سياسية بخلفيات طائفية، وسيطرت روح الشك والريبة بينهم. ونجم عن ذلك نزوع القادة لتعيين الضباط الجدد بحسب الولاء الشخصي والطائفي لا الكفاءة، مع تسريح آلاف الضباط، لا سيما بعد انقلاب 8 آذار 1963 وحركة 23 شباط 1966. فضلاً عن مشكلات بنيوية أخرى متعلقة بضعف الكفاءة القتالية والتدريب ونقص فاعلية الأسلحة مقارنة بالجيش الإسرائيلي؛ الأمر الذي أدّى إلى انهيار الجيش السوري سريعاً.
باختصار كان القابضون على السلطة منشغلين في صراع دموي عنيف عليها وسلسلة من المؤمرات والمكائد. ولم يكونوا يعيرون بالاً لإسرائيل ونيّاتها العدوانية رغم أنهم كانوا لا يتوقفون عن الزعيق ضدها ليل نهار، كما ما زالوا يفعلون حتى اليوم.