تراوح "الأزمة السورية" بمكانها ضمن ستاتيكو عسكري وأمني في خمس مقاطعات يتقاسمها النفوذ الدولي والإقليمي مع النظام السوري، من دون الولوج الى أية حلول تُمكِّن هذا الشعب من الاستقرار أو العودة الى أرضه.
فلا رغبة أميركية واضحة في المساعدة لإيجاد التقاطع الملائم إقليمياً، لا سيَّما وأن سيطرتها على شمال شرقي سوريا، لا يعني أنه سيقودها إلى إسقاط الدولة والنظام، بل وعبر قانون قيصر سيوقف حتماً أية مبادرة روسية للحل، أو سطوة إيرانية مستقبلاً للاستثمار عليها في حرب غزة، خاصة وأن كل من واشنطن وموسكو، باتت ملفاتهما بعيدة عن التفاهم في حرب أوكرانيا وتداعياتها الأوروبية، وفي فلسطين والاستقطاب الحاد الجاري شرق المتوسط، بالإضافة إلى ملفات جيوسياسية استجدت مع الصين وإيران، التي ترغب الإدارة الأميركية في أن تكون طهران شريكاً في الخسائر لا بالأرباح، على حساب دم الشعب الفلسطيني والعربي كله.
تخادم متبادَل
لا يمكن قراءة خطاب المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي من الزاوية المغلوطة عبر نفْيه العلاقة بعملية طوفان الأقصى، وهو بذلك تخادم مع واشنطن بهدف قطع الطريق على حرب شاملة يريدها نتنياهو لتوريط أميركا مع إيران، لا هي تريدها ولا واشنطن كذلك، ثم الحديث عن أن العملية كانت ضرورية، لجمع الأوراق في التفاوض الآتي على نظام إقليمي في الشرق الأوسط، وضرب أي توجه عربي ودولي لحل الدولتين، فالذي يلتقي على رفض هذا الحل هما: نتنياهو والنظام الإيراني.
فإيران تريد توظيف حرب غزة، وكذلك واشنطن، لكن إيران هي اللاعب الذي يعمل من أجل الاستفادة في كل الاتجاهات ومن كل التطورات، خصوصاً التوجه نحو صفقة إقليمية، كما من الاستمرار في حرب استنزاف بلا نهاية ولا انتصارات، وبهذا الصدد أفادت نائبة رئيس مؤسسة بروكنغز ومديرة برنامج السياسة الخارجية سوزان مالوني في مقال نُشر لها في "فورين أفيرز"، بأن "اللاعب الإيراني أعطى فرصة لإضعاف إسرائيل وإذلال الولايات المتحدة وإنهاء نفوذها في الشرق الأوسط، وإعادة تشكيل المنطقة كما يريد".
وزاد عليها وزير الخارجية الإيراني بالوكالة علي باقري كني، في أول زيارة له إلى بيروت، بأن "العلاقات بين إيران ولبنان مؤشر رئيسي إلى مسار الاستقرار في المنطقة، وأن المقاومة هي أساس الاستقرار في المنطقة"، وفق تعبيره، فعملية تصدير الثورة من أولويات أهداف الجمهورية الإيرانية، ويكلّف الحرس الثوري بهذا الأمر عبر نص دستوري، فهو نظام يراهن على الأزمات والفوضى.
ولهذا فإنَّ مفهوم الاستقرار بحسب الرؤية الإيرانية، هو الهيمنة على المنطقة بفرض نظام أمني إقليمي، تديره هي في غياب أية قوة وازنة، حيث تعتبر طهران أن العالم الذي استعمرته الحداثة الدولية ينهار، ويلوح في الأفق عالم ما بعد الحداثة، ولا أحد قادر على قيادته غير إيران، بحسب رأيه.
ولهذا تستعجل إيران إعادة رسم نفوذها في الإقليم، قبل أن يقفز النظام السوري من حضنه، طالما يلعب نظام بشار الأسد الآن، ضمن هوامش متاحة له دولياً وعربياً وإقليمياً وداخلياً، للحفاظ على بقائه في السلطة، وتمرير الوقت في انتظار تغيير يكون لصالحه في لعبة توازنات القوى، فهو لم يتقدم خطوة واحدة إصلاحية منذ تاريخ إعادته إلى حضن الجامعة العربية في قمّة جدة 2023، ولم يلتزم بمخرجات اجتماعات عمّان والقاهرة للجنة الاتصال الوزارية العربية بشأن "الأزمة السورية"، ومنها ما يتعلق بتطبيق قرار مجلس الأمن 2254، أو في مكافحة تهريب المخدرات وتأمين عودة آمنة وطوعية للاجئين.
غضب مزدوج
حاول بشار الأسد، في الأشهر الماضية، الإيحاءَ باتخاذه خطوات إصلاحية تخصّ مكافحة الفساد، فعزل قيادات حزبية يُقال إنها "وازنة"، وأجرى تغييرات أمنية في مستويات عالية، وأبدى استعداده التخلِّي عن الحضن الإيراني والقفز إلى الحضن العربي الذي وَعَدَ بتعويمه، وهذه هي سِمات النظام المتآكل والمشلول، فهو غير قادر على فتح ذراعيه لإخوانه العرب، وغير قادر على الاعتراف بالمعارضات السياسية للوصول إلى حلول سلمية، وغير قادر على ضبط عمليات الكبتاغون وتصنيعها وتصديرها إلى الخليج أو الأردن، وغير قادر على الاعتراف بالقرار الأممي 2254.
من الواضح أنّ هوامش التحرّك المُعطاة للنظام السوري، دولياً وعربياً، غرضها تقليص حجم التوغّل الإيراني في دوائر القرار السوري، وهو ما حاول بشار الأسد التحرّك ضمنه، لكنّ حدّة اللهجة الإيرانية التي قوبِل بها هذا الانفتاح، إضافة إلى تمكّن طهران من الإمساك بمفاصل القرار السوري، وبالقوة العسكرية، يدلّان على عجز نظام الأسد عن تقديم أيّ خطوة مقابلة الانفتاح العربي الأخير..
فإذا حضر القمة العربية وأُبْقيِ صامتاً، غضبت منه إيران بسبب سكوته على قرارات الجامعة العربية حول الجزر الإماراتية، وإذا زار طهران للتعزية بمقتل رئيسها ووزير خارجيته، ازداد الحنق العربي والزعل منه، وبالتالي هو لا يجرؤ على إعادة النازحين واللاجئين السوريين إلى ديارهم من دول الجوار، ليبقى استخدامهم مادة دسمة أمام العالم الغربي وأوروبا للتفاوض معه، ومن أجل الاعتراف بشرعيته، فهو نظام فاقد للشرعية، ويشعر على الدوام بعقَد النقص الذاتية تجاه الآخر وخاصة الغرب.
فمن الواضح أنّ هوامش التحرّك المُعطاة للنظام السوري، دولياً وعربياً، غرضها تقليص حجم التوغّل الإيراني في دوائر القرار السوري، وهو ما حاول بشار الأسد التحرّك ضمنه، لكنّ حدّة اللهجة الإيرانية التي قوبِل بها هذا الانفتاح، إضافة إلى تمكّن طهران من الإمساك بمفاصل القرار السوري، وبالقوة العسكرية، يدلّان على عجز نظام الأسد عن تقديم أيّ خطوة مقابلة الانفتاح العربي الأخير، حيث يبدو أن هناك كثير من أوراق الضغط والقوة باتت بيد إيران على المستوى العربي، من الورقة العراقية إلى السورية فاللبنانية وصولاً إلى اليمن.
وفي ظل عجز نظام الملالي في طهران عن مواكبة الحداثة السياسية الجديدة والمستجدة في الإقليم، فستكون حكماً في صدارة موقع الشرطي المتقدم للغرب على حساب الشعوب العربية ومصالحها، تماماً كما كان حال نظام الشاه قبل الإطاحة به من قبل الثورة الخمينية برجعية دينية، ورجعية عقائدية، وعصاً غليظة تؤدِّب الليبراليين من زاوية الكفر والإلحاد والتفريط بالمعتقد.