icon
التغطية الحية

الموصل وتشكّل المجتمع المدني خلال الإمبراطورية العثمانية

2022.08.08 | 15:02 دمشق

كتاب
+A
حجم الخط
-A

تستعير دينا رزق خوري المثل الموصلي "إنْ أنا أمير وإنت أمير منو يسوق الحمير؟"، كسائر جلبها لأمثال وأقاويل وأشعار مُعبرة عن مضامين كتابتها تحت عنوان "الدولة ومجتمع الولاية في الإمبراطورية العثمانية: الموصل 1540-1838" الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات 2018، والذي تقصّ به حكاية تشكّل ولاية الموصل وتأثير ذلك على مركز الدولة.

ابتدأت خوري في الفصل الأول الحديث عن أساس الكتاب حيث جعلت المقدمة وصفًا منهجيًا للكتاب، ناقشت مفهوم "الهيمنة الاقتصادية" في الدولة العثمانية وتغيرها عبر ثلاثة قرون من زمان الدراسة، وتأثير هذا على مركزية/ لا مركزية الدولة. كذلك أشارت لموضوع التغير في طبيعة فرض الضريبة وعلاقته بسياسة تمليك ريع الأرض من المُلك المؤقت إلى المؤبد.

بعدها انتقلت للحديث عن توصيف ونقد مجموعة من أطروحات مؤرخين عرب لمفهوم علاقة الدولة بالمجتمع مثل وجيه كوثراني وسيار الجميل. تبغي خوري القول إن العلاقة بين الدولة المركزية والطرف -على الأقل في حالة الموصل- لم تكن منفصلة بل وطيدة، ولها أكثر من شكل، على خلاف مؤرخين ركزت بحوثهم على تحليل الثقافة السياسية في إطار محلي إقليميّ.

الاقتصاد: عمود المدينة الفقري

في الفصل الثاني تشرع خوري بالحديث عن تشكّل مدينة الموصل بطبيعتها الإدارية والاقتصادية، من إقليم عصر- وسطي إلى المدنية الحديثة. ولـ(حسن أو سوء) حظ العثمانيين أن مقدمات المفهوم الحديث للدولة بدأ في عهدهم، فكانت تفاعلات التجارة الدولية والإقليمية وفرض الضرائب بأشكالها وتشكل القرى والريف قبالة الحضر والمدينة في فترة هذه الدراسة.

برزت تغيرات عديدة نتاج الانفجار السكاني بسبب الهجرة إلى الريف من ناحية وكذلك الانخفاض الكبير في عددهم في الانضمام للتمردات منذ السيطرة العثمانية على الموصل ونواحيها وحتى منتهى القرن السابع عشر مضافة إليها العصيانات العديدة في الأناضول. من هذه التغيرات والتي هي أسباب لما سيليه كذلك؛ التغير في طبيعة العملة ونزوح المزارعين إلى جانب "المتمردين على الدولة" مع جمع هائل من الأسلحة، ولا يمكن إغفال الحرب العثمانية الصفوية وحلول الطاعون والجراد.

مع اختلاط العساكر بالمدينة والتجار، ونشوء جمع من صغار الملاك المحليين في الريف، نتاج الانخفاض في السكان لصالح المدينة، كانت الموصل تتجه نحو التمدن والمركزية الإقليمية، يضاف إلى ذلك (التأثر والتأثير) بإعادة بناء النظام الإداري الإمبراطوري في الدولة، ليجهّز تشكيل قرن الدولة الثامن عشر.

التوءمان: احتكار العنف والاقتصاد

أشارت خوري في الفصل الثالث إلى مسألة الحرب واحتكار العنف الداخلي الموجه للتمرد في الموصل ونواحيها، وكذلك تجييش الدولة للحرب الخارجية. وهذا سبب التفاعل وتمفصل الاقتصادات المحلية والتغير السكاني بين الريف والحضر ومعه تشكل العلاقة بين مندوبي جمع الضرائب لملتزميهم في إسطنبول والملاك الصغار والكبار في الموصل وضواحيها.

دخلت الدولة في زوبعة تهديد المركزية منذ التمردات الكبرى في الأناضول وجنوبه والشام وحتى تشكل الأعيان المحليين في الموصل وتوتر العلاقة بينهم وبين أندادهم من طرف، وكذلك بين ممثليهم في المركز مع الدولة ذاتها.

ساهم في تركيز صناعة الموصل كمركز إقليمي، بدء تشكل العائلات الكبرى الحاكمة فيها كنوع من سلالة منافسة لمركز الدولة، لها أدواتها في الشرعية والسيادة

وبيّنت تحديات عائلة الجليلي كأعيان للموصل في الموازنة بين منصبهم والتجنيد والمقاولات الاقتصادية وكذلك تشكيل طبيعة الخلافات العسكرية بين قادة الانكشارية؛ لكونها مقدمة إلى انتقال الدولة من سياسة الأعيان إلى نظام جديد أكثر مركزية يغيّر من طريقة تمويل الجيش وثقافته.

الحكم الفالت ونظام المالِكَانه الضريبي

في الفصل الرابع بدا أن الدولة العثمانية تتجه من نظام أكثر مركزية -بالمعنى الوسيط- إلى نظام لا مركزيّ منذ القرن السادس عشر وحتى منتهى الثامن عشر، على العكس مما يحصل في فرنسا مثلًا، وفيما يتعلق بالموصل ونواحيها فإن ابتكار نظام ضريبي جديد، بمثابة عقد للإيجار الذي يلتزمه أعيان محليون، "جعلهم يأكلون رغيف الخبر ويتركون فتاته" للدولة المركز.

يُفهم من قول خوري أن النظام العثماني كان نظامًا شديد التعقيد، بل قد يتّجه ليكون "لا نظام"، أو كما وصفه السوسيولوجي العراقي علي الوردي بـ"الحكم الفالت". 

طبيعة الاجتماع والاقتصاد الهلامية في الموصل

انتقلت خوري في الفصل الخامس للحديث عن نوع من التفصيل عن علاقات المجتمع الموصلي بمحيطه ومركز الدولة، كنوع من إشراك طبقة أوسع من المجتمع في المجال السياسي نتاج فتح باب تحصيل الضريبة مدى الحياة، وانتشار قضية شراء المناصب من الفَرّاش وحتى الوزير.

أيضًا مما ساهم في تركيز صناعة الموصل كمركز إقليمي هو بدء تشكل العائلات الكبرى الحاكمة فيها كنوع من سلالة منافسة لمركز الدولة، لها أدواتها في الشرعية والسيادة، وأنها باتت نوعا من مؤسسات عسكرية وتنظيمات اقتصادية وتجمعات مجتمعية كدولة داخل الدولة.

لم تُغفل خوري الاستفادة من الشرعية الدينية والمدرسية كبناء المرافق المتعددة والاستفادة من وظائفها في المتاجرة بالمناصب وتوزيع الولاءات، برز هذا في تمثيلها صعود عائلة الجليلي (المدنية العسكرية) في مقتبل القرن الثامن عشر في تنافسها مع عائلة العمري (المدرسية الدينية)، ولم تغب عن الشاشة مسألة تنافس السادة والأشراف كشيعة وسنّة وفق وصفها، والذين كان لهم حقٌ كعائلات في تحصيل الضرائب وفق هرمية النظام الضريبي.

أيضًا كان التنافس الحاد بين ملاك أراض متوسطين وتجار بمستويات يقابلهم أولئك الأعيان المحليين وبالتأكيد الممولين الذين كان جلّهم من اليهود والمسيحيين في المركز والأطراف، الذين مثّلوا وسيطًا بين الطرف المحلّي والمركز الحكومي في تسديد دفعات ضريبية ونقل رشاوى يحاول فيها العين شراء منصبه.

الخطاب السياسي: عندما تلدُ البغالُ بغالًا

تنتقل خوري في الفصل السادس للكلام حول جمع من آراء مثقفي الموصل ضمن مؤلفات ومخطوطات معدودة لأفراد من عائلة العمري، أشارت إلى نضج الخطاب السياسي من حيث نشوء معارضة، قد تكون دعمتها مشكلات الحرب وفرض الضرائب، ولكن هذه المعارضة لم تتعدّ على شرعية السلطان ووجوده أكثر مما فعلته مع الأعيان.

هذا على الأقل في مقتبل القرن الثامن عشر وحتى فترة ممتدة منه، ولكن مع ظروف أقسى مع منتهى القرن، ومع بيان أن هؤلاء المثقفين على اطلاع واضح بشؤون سياسة الإمبراطورية من مشكلاتها مع روسيا وحتى احتلال الفرنسيين مصر؛ بدا أن الخطاب السياسي بات يتهدد السلطان ويأخذ من مقامه.

كما لم تغفل خوري الإشارة إلى دور الأسطورة والخرافة في الهيجان السياسي كطفرة "ولادة بغل لبغل آخر، وولادة دجاجة ديكًا بأربع أرجل وأربعة أجنحة!"

وأشارت إلى أنّه مع دخول حقبة التنظيمات، بدا أن معنى الضريبة بدا أكثر تحديدًا في الحديث عن العلاقة بين السلطان وملاك الأراضي الصغار، كما بينت أن النزعة السياسية وتجاذب القوى هو من أثّر على ماهية الفتوى الدينية المذهبية وتضاربها وربطته بتزعزع الشرعية السياسية.

نحو ممارسة السياسة والتمرّد القاسم

سلطت خوري الضوء في الفصل السابع والأخير على طور انتقال الدولة من لامركزية القرن الثامن عشر إلى مركزية التاسع عشر، وذلك عبر مزيد من التركيز على علاقة الدولة بالمجتمع -كنظرية عامة للكتاب- فمثلًا أشارت إلى تفتت سلطة البيوتات السياسية عبر التزايد في شكاوى قرى الموصل وضواحيها أرسلتها إلى المركز من ناحية.

ومن أخرى استقواء تحالف التجار والملاك الصغار في مواجهة الأعيان، مما أدّى إلى تمرد ثوريّ 1829 على عائلة الجليلي الحاكمة منذ ما يقارب القرن. أدّت الضريبة وتغير طرق تحصيلها عبر عقود ضمن فترة الدراسة مع تشكّل نظام "المالِكَانه" إلى مزيد من احتكار الثروة والسلطة السياسية المحلية، وبالتالي احتكار العنف الذي أدّى لانفجار الأحداث في عقود القرن التاسع عشر الثلاثة الأولى.

كان أسلوب الكتاب بين جلدتيه على طرز كتابات تاريخية حديثة يمدّ ويجزُرُ القارئ في كل فصل منه، إذ يُعيد إعطاء قراءة حول فترة الدراسة ضمن كل موضوع، ولا يسير بأسلوب خطّي كلاسيكي بين سنتي الدراسة.