لا يمكنك ببساطة أن تولد في بلد محكوم بالاستبداد، ثم تتخيل نفسك قادراً، ولو للحظة واحدة، على النجاة، من آثار ذلك الاستبداد، ومن سطوته. في حسابات السوريين، وعلى مدى نصف قرن من الزمان، يبرز الاستبداد بوصفه العامل المشترك بينهم، المحرك الرئيس لحيواتهم، والمسيطر كلياً على كل شيء، حتى الأحلام..
لا يمثل المواطن “س” استثناء في هذه القاعدة، فالرجل الذي ولد عام ١٩٦٣، كان توقيت ولادته نقطة تحول في تاريخ سوريا كلها، إذ سيمثل ذلك التاريخ بداية لعهد الاستبداد، الذي سوف يرافقه طيلة حياته، لم ينشغل المواطن “س” بالأمور العامة أبداً، ولم يهتم بمن يحكم البلد، فقد كان شخصاً عادياً جداً. موظفاً في القطاع العام، راتبه الشهري، بالإضافة إلى راتب زوجته، يكفيهما ليعيشا حياة عادية أيضاً، في بيت مستأجر، وقد اتخذا قرارهما منذ بداية زواجهما بأن يكتفيا بإنجاب طفلين فقط، كي يتمكنا من تربيتهما تربية جيدة، وهذا ما حدث تقريباً، فالحياة كانت هادئة، لا يهم ما يحدث حولهما، الذهاب إلى العمل، ثم العودة، علاقات اجتماعية محدودة نوعاً ما، اهتمام لا بأس به بالرياضة، وبمشاهدة بعض المسلسلات، حتى القراءة لم يكن لها دور في حياتهما، منذ أن أنهيا دراستهما الجامعية.
الأمور هكذا جيدة جداً. كان المواطن “س” يقول دائماً.
سوف يكون لهم بيتهم الخاص، وربما قد يفكر بعد ذلك بشراء سيارة صغيرة، والولدان طالبان جامعيان مجتهدان. هذه هي الحياة التي كان يحلم بها
وقد نشأ الطفلان مثل والديهما تماماً، وكانت الجملة الأشهر في بيتهم: “لا علاقة لنا” وتتعلق هذه الجملة في كل ما يحدث، الحروب والأحداث الكبيرة التي شهدها المحيط، حتى ارتفاع الأسعار، أو نقص بعض المواد الغذائية، كانوا يعتبرونه أمراً عادياً، وقد يحدث في أي بلد في العالم، وكان يمكن لهذا الشكل من الحياة أن يستمر، حتى بعد أن اندلعت الثورة عام ٢٠١١، نعم هكذا تماماً، إلى هذا الحد، فقد قرر المواطن “س” أن ما يحدث في الشارع لا يعنيهم، كان قد حصل مؤخراً على تأكيد بأن الشقة التي كان يدفع أقساطها الشهرية سوف تكون جاهزة عام ٢٠١٣ وهذا شيء رائع حقاً، سوف يكون لهم بيتهم الخاص، وربما قد يفكر بعد ذلك بشراء سيارة صغيرة، والولدان طالبان جامعيان مجتهدان. هذه هي الحياة التي كان يحلم بها.
لكن ثمة خلل قد حدث في المعادلة، فهو لم يحسب حساب أن أحد أشقائه قد يفسد خطط حياته، وينضم إلى صفوف الثورة، ويظهر على إحدى الفضائيات ليلعن النظام وأهله، ويعلن أن أيام ذلك النظام "صارت معدودة".
ولأن المواطن “س” شخص هامشي، عادي، فإن ظهور شقيقه لن يشكل فارقاً كبيراً في حياته، ويستطيع بسهولة أن يقول إن من ظهر على التلفزيون ليس شقيقه، وإنما تشابه أسماء، هكذا فكر طيلة تلك الليلة، وهذا ما فعله تماماً في اليوم التالي، الأمر بسيط، هكذا قال، وليس معقداً أبداً... وكادت الأمور أن تمضي بسلام... لكن.
دفع المواطن “س” كل ما كان يملكه، على وسطاء وعدوه بأنهم سيطلقون سراح ولده، وحتى تلك الشقة الصغيرة التي كانت حلم حياته، باعها كي يتمكن من دفع ما يطلبه أولئك الوسطاء
كان أحد ولديه عائداً إلى المنزل بعد شهر تقريباً، وقد أوقفه أحد الحواجز قريباً من مدينة المعضمية في ريف دمشق، طلب العسكري على الحاجز من الشاب الجامعي أن يترجل من الميكرو باص، قام بتفتيشه، فلم يجد لديه أي شيء، لكن نسبته كانت جريمة، اقتيد الشاب إلى أحد الفروع الأمنية.. واختفى.
في هذا العام يكون قد مر على اعتقال الشاب عشر سنوات، لم يترك المواطن “س” باباً إلا طرقه، توسل، وجثا على ركبتيه، وبكى، ولكن من دون نتيجة.
دفع المواطن “س” كل ما كان يملكه، على وسطاء وعدوه بأنهم سيطلقون سراح ولده، وحتى تلك الشقة الصغيرة التي كانت حلم حياته، باعها كي يتمكن من دفع ما يطلبه أولئك الوسطاء.
منذ أشهر كان المواطن “س” يقطع الشارع عائداً إلى منزله، فاستوقفته مراسلة التلفزيون السوري، سألته عن رأيه في المؤامرة الكونية التي تعرضت لها سوريا، فرسم على وجهه ابتسامة وقال: لقد انتصرت سوريا على المؤامرة، لم يعد أحد قادراً على التآمر علينا، سوريا بخير، وانتهى كل شيء... كل شيء.
أخيراً.. يقبع في معتقلات النظام عشرات آلاف السوريين، نصفهم على الأقل لم يقوموا بأي عمل يخالف القانون، أو “يزعج” النظام، لكن حاجزاً ما أوقفهم، واعتقلهم، وتحولوا إلى سلعة يتربح منها قادة الفروع الأمنية وعناصرهم.