في التاريخ السوري، ثمة حادثة يخجل المؤرخون من ذكرها، وسعى كثيرون لإنكارها، والقول إنها مفبركة، ولا صحة لها، يعود تاريخ تلك الحادثة إلى بدايات القرن المنقضي، تحديداً في الرابع والعشرين من شهر تموز عام ١٩٢٠، وأما مكان الحادثة فهو مدينة دمشق، وفي سردية تلك الحادثة أنه وبعد هزيمة الجيش العربي بقيادة يوسف العظمة، في معركة ميسلون، دخلت القوات الفرنسية دمشق، بقيادة الجنرال غورو، سنذكر في التفاصيل مثلاً أن غورو توجه إلى قبر صلاح الدين الأيوبي مخاطباً إياه بالقول: ها قد عدنا يا صلاح الدين، طبعاً في إشارة إلى الحروب الصليبية التي كان صلاح الدين قد أفشلها، وانتصر فيها، لكن ما بين هذه التفاصيل يحكى أن عدداً من التجار أزاحوا الخيول أو الحمير التي كانت تجرّ عربة الجنرال غورو، وقاموا هم بأنفسهم بجر العربة، مرحبين بالجنرال الغازي، وإذا كنت أتفق مع المؤرخين الذين استندوا في نفيهم للحادثة إلى بعض الصحف التي كانت تصدر آنذاك، والتي وصفت يوم دخول غورو بشكل مفصل، إلا أن المثل يقول: “لا يوجد دخان من غير نار”.
حين دخل الجيش الألماني الغازي باريس، ثمة من وقف على جانبي الطريق مرحباً بالغزاة. فيما بعد، وفي أعقاب سقوط النازية، جُمع أولئك الخونة، وحلق شعر رؤوسهم، ثم نقلوا في عربات الخزي التي طافت بهم في شوارع المدينة، وسوف أجازف بالقول إن التاريخ السوري لم تذكر فيه حادثة شبيهة، أقصد بعد خروج المستعمر الفرنسي، فلم يذكر المؤرخون أن الخونة حوسبوا على خيانتهم، وعمالتهم للمستعمر، بل ربما صار بعضهم من الأعيان أو الوجهاء في عهد الاستقلال.
ظهر لدينا نوع جديد من أولئك الأشخاص، الذين يجرون عربة الجنرال طواعية، نستطيع العثور عليهم بسهولة عبر وسائل التواصل الاجتماعي
منذ سنوات، ومع بدء التيه السوري في جهات الأرض الأربع، ظهر لدينا نوع جديد من أولئك الأشخاص، الذين يجرون عربة الجنرال طواعية، نستطيع العثور عليهم بسهولة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، من خلال منشوراتهم، أو حتى من خلال الصور التي يضعونها على صفحاتهم، إنهم بكل بساطة “يطبلون” حسب المصطلح الدارج، لأي نظام، ويدافعون عنه بشراسة، بل ويدخلون في حروب مع الآخرين في سبيل ذلك النظام، سألت أصدقاء لي يقيمون في تركيا منذ سنوات، بعضهم يعمل في المجال الصحفي، والبعض الآخر يعمل في مجالات مختلفة، نصفهم تقريباً حصلوا على الجنسية التركية، سألتهم إن كانت السلطات التركية تطلب من السوريين وضع صورة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، أو العلم التركي مثلاً، ورغم أني كنت متوقعاً الإجابة والتي هي بطبيعة الحال النفي، واستطراداً فإن وسائل الإعلام التركية نفسها قد تنتقد الرئيس التركي، وحكومته، بل وتهاجمه، وهذا طبيعي جداً، في بلد لديه نظام ديمقراطي، وهامش من الحرية الصحفية. ولا يقتصر الأمر على تركيا، ولكنه استوقفني كثيراً لأن ثمة طائفة سورية كاملة صارت تسمى “السوركيين”، وهذا ليس سراً. وإن انتقلنا مثلاً إلى ألمانيا، وخاصة خلال فترة وجود المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل على رأس الحكومة الألمانية، فلن نعدم وسيلة لنجد مدائح لا تنتهي، وصوراً متنوعة لها على حسابات السوريين في وسائل التواصل الاجتماعي، وصولاً إلى إطلاق اسم أنجيلا على بعض المولودات، وهذا ما لم يفعله الألمان أنفسهم، وحتى أولئك الذين ينتمون لحزب السيدة ميركل وتيارها السياسي.
وفي دول الخليج حيث يقيم سوريون نجد صور الملوك والأمراء، ومؤخراً في فرنسا، حيث خصص موقع سوري زاوية تتابع أخبار الرئيس ماكرون، وحركاته وتحركاته، وبما أن الأمر ليس شخصياً، ولكنه رصد لظاهرة غريبة، فإني، وكوني مقيماً في فرنسا منذ سنوات، ولدي أصدقاء فرنسيون من مختلف التيارات السياسية، أستطيع القول إن الإعلام الرسمي الفرنسي، قد يتجاهل بسهولة خبراً للرئيس ماكرون، إن كان ثمة عاصفة أو حريق في إحدى المناطق، وما يهم ذلك الإعلام وقتها، هو تصرف ماكرون باعتباره مسؤولاً، وأعلى موظف في الدولة، وينتظر ذلك الإعلام عثراته، ولن يخلو الأمر من كاريكاتير ساخر من الرئيس إن ارتكب غلطة، أو صرح تصريحاً غريباً..
الرئيس التركي لن يعنيه أن يضع سوري صورته على صفحة في الفيسبوك، ولا أن يوجه له الشكر لأن بلاده استضافت اللاجئين السوريين..
حين توفيت ملكة بريطانيا إليزابيث الثانية، بعد سبعين سنة قضتها على كرسي الحكم، تطوع سوريون على وسائل التواصل الاجتماعي لتقديم العزاء للشعب البريطاني، في فقيدتهم الغالية، ملكة الإنسانية، كما وصفها أحد المعلقين، طبعاً جميع المنشورات كانت باللغة العربية، ولن يقرأها الشعب البريطاني، ولن يسمع بها ولا بأصحابها، تماماً كما أن الرئيس التركي لن يعنيه أن يضع سوري صورته على صفحة في الفيسبوك، ولا أن يوجه له الشكر لأن بلاده استضافت اللاجئين السوريين..
هذه حالة مرضية غريبة، ربما لن نعثر عليها لدى شعب غيرنا، لا أدري.
شعبنا خرج في ثورة يريد من خلالها التخلص من نظام مستبد، يكرّس الحاكم إلهاً، تتصدر صوره حياتنا في كل شيء، وتسبق أخباره التافهة مآسينا وفقرنا، بل وحتى كوارثنا.. فلماذا يبحث بعضنا عن حاكم جديد يكرّسه إلهاً؟