تعد مسرحية "مهاجرون" التي كتبها "سلافومير مروجك" في العام (1974) بباريس التي كان لاجئاً فيها؛ واحدة من أبرز المسرحيات التي تناولت موضوع الهجرة واللجوء وصراع الهوية الثقافية في العالم.
تدور أحداث المسرحية في ليلة رأس السنة، حول اثنين من المهاجرين، حملت أسماؤهم أحرف (س) و(ص)، حيث تمثّل الشخصية (س): المثقّف؛ المهاجر السياسي الذي يبحث عن الحرية والديموقراطية، بينما تمثّل الشخصية (ص): دور العامل الحر؛ الأمّي، المهاجر الذي يسعى إلى تحسين وضعه المعيشي. تقع أحداث المسرحية في قبو متهالك يعاني من الرطوبة والعفونة، ضمن مدينة مجهولة تبدو لنا من خلال الحوار أنها مدينة غربيّة متحضّرة، هاجرا إليها من بلاد مجهولة أيضاً، لكننا نعرف من خلال سياق الحوار أنها كانت تقبع تحت نير الديكتاتورية. يتصاعد الخط الدرامي مشحوناً بكم من العدائية بين الشخصيتين، ليبدو الحوار في مواطن عديدة شبيهاً بمبارزة تدور بين شخصيتين متناقضتين تماماً، فهذان الشخصان يقتسمان غرفة قبو ينامان على سريرين متقابلين وكل منهما يشعر بثقل شريكه، لكنهما لا يفترقان، يأخذ الجدل بينهما منحى التصعيد، ثم يتفاقم لشجار عنيف ينشب بينهما لساعات، يصل إلى درجة العراك والاقتتال، ثم ما يلبث أن يهدأ دون جدوى؛ فالثقة غائبة بينهما والتشكّك يهيمن على العلاقة بينهما، يحدث هذا الاضطراب من خلال نظرة كل منهما إلى الآخر والتي تعتمد على مبدأ المصلحة والمنفعة التي تربطهما معاً، ومن حيث الهدف الذي جاء كل واحد منهما لأجله.
"(س): حالتي متفرّدة تماماً، حاجتي للأسير المثالي لا تقع ضمن مفهوم المنفعة على أي حال من الأحوال، أنت ضروري لي كموديل، كمثال، ورقيب، خصوصاً هنا.
(ص): أنا زوجٌ وأبٌ، ولديّ أطفال... كن ما تكن أنت؛ مثقف، سياسي، لا يهمّني، أنا لست قرد!
(س): أنت الآن بالضبط مثلي حينما كنت أنا مثلك سابقاً، كالشهاب الساقط مخترقاً عمق الأرض، الذي لا يتغير ولا يشعر بما حوله، الوافد الجديد من عالم آخر..."
لا أحد تعجبه حياة الآخر، فالمثقّف (س) غارق في الكسل، حالم بمجتمع يلبّي طموحاته الفكرية والسياسية، بينما نجد العامل البسيط (ص) يفرض على نفسه التقتير من أجل توفير المال؛ فيتحوّل إلى شحٍ مقيت يصل به لتناول معلّبات مخصّصة للكلاب! في سبيل ادّخار أجرته من عمل شاق في مجاري المدينة، بينما (س) لا يكترث بواقعه حيث لا يوجد عمل له ولا نشاط فعلي غير القراءة والنوم، يحلم بتأليف كتاب لم يُنجز بعد، وسط القبو الذي يطلق عليه (ص) "الزريبة"! يشتعل الجدل بينهما ثم ينطفئ، فنجدهما يتبادلان التهم في التجسّس لسلطة بلديهما، ويحاول كل واحد منها إثبات التهمة على الآخر، وتلك الشكوكية ليست بمستغربة حين يحملها المهاجر معه من بلاد ترزح تحت وطأة أنظمة قمعية، ليتطوّر إلى شجار عنيف بينهما، يحاول (س) خنق (ص) ثم ينقض (ص) بفأسه على (س) دون أن يقتل أحدهما الآخر. يستعر النقاش بينهما مجددّاً بشكل استفزازي، حيث (س) يحشو رأس (ص) بحقيقة أنه لن يعود إلى الوطن أبداً، وأنه سيبقى هنا في هذه الغرفة البائسة ويعمل حتى الموت في المجاري مثل "جرذ نافق"! ليبلغ التوتر ذروته التي تدفع بـ (ص) لأن يمزّق النقود التي جمعها وينثرها، ثم يصعد الطاولة ليشنق نفسه. لقد لعب (س) دور المثقّف السلبي حين جعل (ص) يدرك الوضع المأساوي الذي يعيشه، دون تقديم حلول منطقية تناسب معرفته وإمكانياته العقلية، وفي اللحظة التي يصمّم بها (ص) الانتحار شنقاً، يهرع (س) لينقذه قبل فوات الأوان، فيتوسل إليه ليكفّ عن ذلك بحيلة أنه من الممكن استعادة النقود التي مزّقها بطريقة لصقها، لتكون النهاية الخائبة التي لا رحمة فيها لمن يعيش على هامش الحياة، وكأن حياتهما مبنيّة على الخسارة الدائمة.
تتمحور فكرة النص الرئيسة حول اندماج الجنسيات الأجنبية وكيف يتغيّر ويتلوّن مفهوم الإقامة في البلد المضيف، وتعاين تفاصيل الغربة والوحدة، والسجن الكبير الذي يعيشه اللّاجئ خارج أرضه، وثمّة العديد من الاعتبارات المتعلّقة بالهجرة التي يطرحها العمل، إلا أنه ثمّة ذروة في النص يمكن لها أن تمثّل مفتاح العمل برمّته، وهي اللحظة التي تتطابق فيها وجهة نظر الشخصيتين معاً، عندما يصلان إلى نتيجة واحدة مفادها؛ أن كليهما "طفيليات"! ذلك الشعور الغريب التي تحدثه نظرة المجتمع المضيف لهما، والتي تجعل بينهما ارتباطاً من نوع ما يفسّر بقاؤهما معاً رغم التباين والانقسام الحاد بينهما؛ فالاغتراب يضع الجميع في قارب واحد.
يكشف لنا العمل المسرحي أيضاً اضطراب الهوية في بلدان الاغتراب، حيث نرى المثقّف النخبوي الذي يمثلّه المفكر المتعالي وهو يعادي ويمارس ديكتاتورية واضحة على الرجل البسيط المهاجر من أجل تأمين حياته وتلبية حاجياته المادية الأساسية، بينما يتنكّر له الآخر ويرفض أن يشاركه تكاليف المعيشة، ويعتبر ذلك واجبه، ويستنكر على الآخر لاواقعيته وعزلته وتقوقعه واكتفاءه بالتنظير الذي لا جدوى منه، كلاهما يسخّف طموحات الآخر، ويعتبر الآخر مثالاً للفشل الذريع.
يزداد هذا الانقسام بين المثقّف والإنسان العادي خارج أسوار الوطن، والذي كان من المفترض أن يكمّل أحدهما دور الآخر، لكن العلاقة بينهما تغدو صراعاً يصل إلى حد العراك والاقتتال، فالقاسم المشترك للشخصيتين هو الاضطراب المتزايد الناجم من إحساسهما بالضياع، وتوجّسهما من قبول الهوية الجديدة، كأنهما في رحم المعاناة الأولى - في قبو رطب - ينتظران ولادة جديدة على صخب الاحتفال بقدوم السنة الجديدة، ومع تنامي التوتر بينهما، تنسرب من وراء الجدران أصوات حفل صاخب لأهالي المنطقة، مما يعمّق شعورهم باغترابهم وضياعهم ، فيزيد انشغالهم بمصيرهم ويزيد من انقسامهم، فالمثقّف يرتدي قناعاً يخفي وراءه الخوف والشعور بالدونية، يناضل من أجل القبول الاجتماعي والتقدّم والازدهار، بينما يلعب الآخر دور النقيض منه ، الواقعي الجاد في كسب قوته وادخاره، وهو لم تُتح له فرصة التعليم والتعرف على عادات وقيم المجتمع الجديد؛ بل يرفض تعلّم لغة البلد المضيف، بحجة أنه في وضع مؤقّت فقط، بل "يكره أهل البلد ولغتها"، فكل مسعاه كسب المال من أجل العودة. كلاهما يحمل الصفة ذاتها من حيث التشكّي والتذمّر وإلقاء اللوم على الآخر، دون النظر بواقعية في مجرى الأحداث والتأثير فيها كقوة فاعلة، هذا الذي سيقود الظرف المشترك بينهما إلى المزيد من الضعف والتشرذم، ربما يفسّر لنا عجز النّخب والقوى الأخرى عن التنظيم في الخارج.
من زاوية أخرى يظهر كل واحد منهما كأنه متطفّل على حياة الآخر، على الرغم من أن صراعهما المستمر يخلق تعايشاً، نجد في نهاية العمل أن كلا الطرفين سجناء في مجتمع لا يريدهما، ضحيتان لحالات طارئة سياسية أو اقتصادية أجبرتهما على الفرار من بلدهما؛ بالرّغم من أن لديهما آراء متعارضة حول أوضاعهما، إلّا أنّهما يحملان القيمة الرمزية نفسها.
نشير هنا إلى أن مؤلف العمل "سلافومير مروجك" كتب هذا النص على أساس تجربته الشخصية فقد هاجر من موطنه بولندا، وتوجّه إلى إيطاليا ثم فرنسا؛ بسبب انعدام الحريات والفقر في فترة الاتحاد السوفييتي، وما يزال النص يجوب العالم؛ إذ أنّ مسألة اللاجئين والمهاجرين ليست بالقضيّة الطارئة في تاريخ البشرية، حيث إننا نشهد في السنوات القليلة الماضية أعداداً هائلة من المهاجرين واللاجئين، خاصة من البلدان التي مزّقتها الحروب، مثل سوريا التي تعاني ما تعانيه من أزمة استمرّت لأكثر من عقد دون بارقة أمل تلوح في الأفق القريب، أو مؤشر لحلول جذرية، تنهي مأساة السوريين في بلدان الاغتراب، الذين يعاني أغلبهم من ممارسات عنصرية وخطاب كراهية وتنمّر ورفض المجتمعات المضيفة لهم، ممّا يجعل هذا النصّ نصاً حديثاً ومتجدّداً يمكن إسقاطه بشكل دائم على الهجرات التي أصبحت سمة هذا العصر الذي يعجّ بقضايا المهاجرين والعنصرية التي باتت أشبه بوجبة أساسية لا يمكن ليومنا أن يخلو منها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
-
تم عرض العمل تحت عنوان "المهاجران" من اخراج سامر عمران، في دمشق عام 2008، تم تحويله فيما بعد إلى فيلم. وكذلك تم عرض العمل المسرحي تحت عنوان " اللاجئان" للأخوين ملص في عمّان الأردن 2016 ولاحقاً في مهرجان "غرونوبل" في فرنسا عام 2012.
-
ثمة ترجمات عديدة للنص الأصلي تحت عناوين مختلفة، اخترت منها للدراسة؛ مسرحية مهاجرون، الكاتب سلافومير مروجك، ترجمة عبد الواحد المهدي وماجد الخطيب، دار المطبعة والوراقة الوطنية مراكش المغرب، ط 1، 2013.