في الوقت الذي تتأجج فيه معارك الكلام، وتزداد حدة الانقسام في العالم العربي، بخصوص الهزائم أو الانتصارات، وعن الفرح أو الحزن، وحول فهم ما يفعله الآخرون بنا، وبعيداً عن الفواجع المتواصلة التي تنزل بهذه المنطقة واحدة بعد أخرى، فإن تلمس آفاق ما يؤسسه الآخرون لنا ولبلداننا، وما هو قادم، يجب أن يكون الشغل الشاغل لنا جميعاً، لكنه للأسف يكاد يغيب تماماً، تحت وطأة انشغالنا بمعارك الكلام، وبالعيش على رد الفعل والانتظار.
مفصل بالغ الخطورة تشهده منطقتنا، ولعله المفصل الأخطر في تاريخنا الحديث، وقد يودي بكل هذه المنطقة من العالم إلى صيغة جديدة تماماً، هذه ليست مبالغة، فمنذ أن استبيحت العراق، ومن ثم سمح لبشار الأسد ومعه حلفاؤه بشن حرب إبادة وتهجير بحق السوريين، ومنذ أن أصبحت سوريا والعراق مسرحاً لإيران، ولقوى أخرى كثيرة، ومنذ أن استطاعت إيران أن تفتك ببلدين، كان من الضروري أن تتنبه كل قوى هذه المجتمعات إلى خطورة ما يجري، وإلى أن تدمير هذين البلدين وتفتيت نسيجهما الاجتماعي سيودي بالضرورة إلى تغيير كامل في المنطقة.
لا يمكن لدولة، أو لمنطقة ملغمة بشروخ عميقة وكثيرة، وتنعدم فيها المواطنة، أن تمتلك القدرة على التماسك في حالة انهيار القوى المتحكمة بها، ولا يمكن لها أن تمتلك الحد الأدنى من القدرة على التروي للبحث عن طرق الخلاص.
عندما تكون الدولة هشّة في أي مجتمع تنطوي بنيته الاجتماعية على شروخ عميقة متجذرة ومتغلغلة حتى في بنية الدولة ذاتها، فإن الغائب الأهم في هذه التركيبة ستكون المواطنة بالتأكيد، وبغياب المواطنة تغيب الهوية الوطنية، وتصبح الانتماءات إلى الجماعات ما دون الوطنية هي الأقوى، وبالتالي فإن الخضات العنيفة، أو انفلات العنف يفتح على مصائر فائقة الخطورة.
لا يمكن لدولة، أو لمنطقة ملغمة بشروخ عميقة وكثيرة، وتنعدم فيها المواطنة، أن تمتلك القدرة على التماسك في حالة انهيار القوى المتحكمة بها، ولا يمكن لها أن تمتلك الحد الأدنى من القدرة على التروي للبحث عن طرق الخلاص، وغالباً ما تنخرط هذه المجتمعات في دورة عنف قد تكون مدمرة، وقد تفضي في حال وعي نخبها لمصالحها الحقيقية إلى صيغة تفتح الأفق أمامها نحو دولة مواطنة حقيقية، وهذا ما يمكن رؤيته بوضوح في تفاصيل ما حدث في سوريا والعراق، فعندما انهار النظامان القمعيان المتحكمان بهما انفجرت الصراعات البينية في المجتمع، وانقسم إلى تقسيماته ما قبل الوطنية، وغيبت قواه الوطنية.
على ضوء الفكرة السابقة يمكن القول إن أكبر المخاطر التي تهدد مجتمعات متماسكة ظاهرياً بقوة القمع، هو الانهيار المفاجئ للقوة القامعة، سواء تم الانهيار بفعل عامل خارجي، أو عبر عامل داخلي عنفي، وفي لحظة الانهيار هذه يتشظى المجتمع، عندها تصبح الأولوية الأهم لكل قوى المجتمع الفاعلة هي وقف هذا التشظي، ومنع انزلاقه إلى دائرة العنف، ومن هنا يأتي التفارق بين وجهتي نظر تقول الأولى بالإصلاح التدريجي، بينما تذهب الثانية إلى استحالة الإصلاح التدريجي في بعض الأنظمة مثل النظامين السوري والعراقي.
ما حدث في سوريا والعراق هو انهيار نظامين شموليين احتكرا السياسة والسلطة والقوة، وما هو قائم اليوم في كلا البلدين هو صيغة مصالح الأطراف الخارجية المحتلة لهما، وليس صيغة المصالح الوطنية، وما نراه أيضاً في الحوارات المشتعلة بين أفراد هذين المجتمعين هو انعكاس مباشر لغياب المشروع الوطني فيهما، ولغياب القوى الوطنية القادرة على التأسيس لهذا المشروع الوطني.
لا يكفي تحميل النظم السابقة وحدها المسؤولية عما ستؤول إليه هذه المنطقة، فعندما يسكت المجتمع الدولي عن جرائم إبادة ارتكبت وما تزال بحق العراقيين، وبحق السوريين والفلسطينيين واللبنانيين، واليمنيين والسودانيين والليبيين، وعندما تمارس إسرائيل حرباً عنصرية بمنتهى الوضوح، وتستعمل كل قوتها العسكرية مدعومة من قوى كبرى، فإنه من الواضح أن ما جرى ويجري لم يكن بسبب كذبة امتلاك العراق لأسلحة تدمير شامل، ولا بسبب ما قامت به حماس في 7 أكتوبر 2023، ولا بسبب مساندة حزب الله لها، ولا. . . ولا، بل هو أساساً لإعادة ترتيب هذه المنطقة من جديد وفق مصالح أطراف خارجية، وليس وفق مصالح شعوبها.
لامعنى اليوم لكل محاولات التلطي وراء الاتفاقات الدولية، أو هيئة الأمم المتحدة، ولا أهمية لكل هذا الدجل الإعلامي الذي تصدع رؤوسنا به تصريحات السياسيين في الدول الكبرى.
اليوم وفي ظل العنف الذي يطول كل المنطقة، والذي خطط له، ويؤجج من قبل قوى كبرى أداتها المباشرة إسرائيل، يغدو من الجنون الغوص في صراعات بينية داخل هذه المجتمعات، والمظلوميات التي يسند كل طرف ظهره لها لتحديد علاقته بالأطراف الأخرى هي مقتل أي مشروع وطني، وهي أداة الآخرين التي تعزز بمنهجية ودراية كي ترسم مصير هذه المجتمعات مستقبلاً.
لامعنى اليوم لكل محاولات التلطي وراء الاتفاقات الدولية، أو هيئة الأمم المتحدة، ولا أهمية لكل هذا الدجل الإعلامي الذي تصدع رؤوسنا به تصريحات السياسيين في الدول الكبرى وقلقهم المزعوم ودعوتهم لعدم التصعيد، وخوفهم على المدنيين، فكل هذا الهراء ليس أكثر من تعمية مقصودة وممنهجة عن حقيقة ما يجري، وعن حقيقة الأطراف التي تدعمه وتشارك به، فالقوة العارية هي سيدة القرار، وسكوت الجميع عن الإبادة الجماعية التي ترتكب على مرأى العالم كله في لبنان وفلسطين، أو تبريرها، يؤكد أن الحديث عن قانون دولي أو منظمات دولية، هو مجرد دجل فاقع، فهناك عالم جديد يولد بقوة السلاح، وبقوة التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي.
لم يعد هناك أمام مجتمعات هذه المنطقة إلا أن تتوقف عن حروبها الهامشية، وتتوقف عن استحضار مظلومياتها المحقة وغير المحقة، وأن تتنبه إلى التدمير الممنهج لكل إمكانات تطورها، وإلى خطورة التغيير الديموغرافي الممنهج، وحجم التواطئ عليها حتى من قبل أطراف تعلن صداقتها لها، وأن تتنبه جيداً إلى محاولة فرض هيمنة إسرائيل على كامل المنطقة، فهل تسارع نخبها وقواها إلى لملمة ما يمكن لملمته، ومحاولة وقف هذا التشظي المتواصل، والذي لا يمكن دون توقفه أن يقوم أي مشروع وطني.