الممانعة تبحث عن مقايضة أو عمَّن يشتري تنازلها الأخير..

2023.10.06 | 06:36 دمشق

الممانعة تبحث عن مقايضة أو عمَّن يشتري تنازلها الأخير..
+A
حجم الخط
-A

تعيش منطقة الشرق الأوسط حالة غليان، لتثبيت معادلات حكم سياسية واستقرار اقتصادي واجتماعي دائم يرغب به النظام الدولي، المنزاح نحو تمركزه الأخير في العالم والإقليم، جارفاً معه/ وممهداً أمامه، كل ظروف التهيئة والتسهيل، شاطباً كل عوائق أو نوافر قد تعطِّل أو تؤخر مشاريع التنمية وسلاسل التوريد في إمدادات الطاقة والتصنيع والهيكلة الاقتصادية العالمية، من أقصى شرق آسيا وصولا إلى أوروبا.

فهذا المدّ التسونامي، يمكن له أن يلغي حدوداً ويغير في جغرافيا الدول متى تطلبت مصالح الدول الكبرى ذلك في سبيل تركيز ترساناته الاقتصادية وبناء علاقات إنتاج تخدم مشاريعه الجيوستراتيجية. واليوم هذا العالم، هو على استعداد لأن يعيد الكرَّة في منطقة الشرق الأوسط في العراق وسوريا ولبنان، وغيرها من الدول التي تتحكم في مفاصل حكمها سلطة الميليشيات الطائفية، المتقاسمة لحصص وخيرات الدولة، والمشكِّلة خطوطاً دفاعية متقدمة لتعزيز الأوراق التفاوضية لدى طهران، وبالتالي فقد هيَّأت هذه المنظومات الحاكمة في لبنان وسوريا والعراق، كل الأسباب لوقوع الانهيار، واستثمرت القوى الخارجية في فسادها لتمرّر مخططات سياسية إقليمية تريد أن يكون لبنان وسوريا بالتحديد جزءاً منها.

كل القوى الخارجية، العربية والدولية كانت تدعم دائماً قوى السلطة الحالية في لبنان وسوريا والعراق، وكانت تبارك وتثْني على استمرارها وتمدُّ لها يد المساعدات دون قيد أو شرط، رغم معرفتها وإدراكها بأنَّ هذه المنظومة فاسدة ومستبدَّة وتدميرية، ورغم معرفتها بأن أموال الدولة والشعب تتعرَّض للنَّهب المنظم، ولمحاصصة الميليشيات، والتقاسم بين الأزلام والمحاسيب في الحكم، لكن فجأة أوقفت هذه القوى الدولية دعمها، وأحْكَمت قبْضة العقوبات العربية والغربية على نظم الممانعة تلك، في توقيت وظرف دوليين يبدو أنه مدروس، وإلاَّ لماذا الانتظار كل هذه المدة حتى يدفع الشعب السوري الكثير من الدماء والتهجير والنَّفي والطرد وعبور البحار والفيافي إلى أراضي الله الواسعة..؟ ولماذا بقي اللبنانيون قيد الانتظار حتى الساعة لاستعادة أموالهم المسروقة ومعرفة من فجر مرفأ بيروت وقتل أبناءها، ومن عبث بالأمن والاغتيالات السياسية ومحاسبة المتورطين، في حين أن الكل يعرف حقيقة من يرتكب كل يوم مجزرة بحق الشعب أمنياً ومالياً وتهجيرياً..

تعرف قوى الممانعة في المنطقة ومعها إيران، أن دفع الثمن صار قريباً، وكذلك الدخول إلى تسويات جدية بعيدة عن مغامرات ومقامرات تصدير الثورة والإيديولوجيا الدينية إلى الخارج، لكنهم مستمرون في مكابرتهم وفي أخذ الشعوب رهينة في شعارات وانتصارات إلهية وهمية، كان أحد أكبر من قدم خدمة لاستمرارية هذه النظم وبقائها هو شعار مواجهة المشروع الأميركي الإمبريالي وربيبته الصهيونية في المنطقة، وعلى منوالها سارت نظم الحكم في سوريا ولبنان وفلسطين والعراق واليمن مدعَّمة بالحكم الديني في إيران، بإطلاق سردية شعاراته ضد الغرب، ومسوِّقاً في مخياله الأوهام التي ما يزال يعيش على بقاياها البعض، في لبنان المثال على التمسُّك بالمرشح الرئاسي سليمان فرنجية من قبل الثنائي المذهبي الشيعي كونه حامي "المقاومة وظهرها" (بحسب تعبيرهم)، في مقابله تمَّت تصفية ترسيم الحدود البحرية مع إسرائيل، وتسلمت تل أبيب حقولا مليئة بالنفط والغاز من حقوق لبنان الخاصة، بعد أن قبضت ثمنها طهران أميركياً في العراق وتشكيل الحكومة في هذا البلد المتشظي طائفياً والمليء بالفساد والقهر.

في سوريا وما حققته انتفاضة السويداء، أظهرت للعالم أن نظام الأسد يواجه شعباً له مطالب سياسية واضحة

كل توقيت هو مدروس بعناية فائقة، وخاصة من خلال الانهيار المالي والاقتصادي، وتعنُّت قوى السلطة الطائفية، فهي خير سبيل لدفعها إلى الرضوخ نحو التسوية المطلوب تحضيرها في الشرق الأوسط، حيث كانت أبرز علامات هذه التسوية في لبنان توقيع اتفاق الترسيم بحراً مع إسرائيل، بموافقة من إيران، وتمهيد الأجواء لمفاوضات الترسيم براً، فيما المنطقة كلها منشغلة بمساعي التطبيع المتعددة الأقطاب مع إسرائيل، وإيران، والعرب والولايات المتحدة.

في سوريا وما حققته انتفاضة السويداء، أظهرت للعالم أن نظام الأسد يواجه شعباً له مطالب سياسية واضحة، فالنظام ظهر عاجزاً عن تسويق بروباغاندا إعلامية كاذبة بأنها ثورة متجددة فيها إسلاميون مسلحون وإرهابيون راديكاليون، ولا بأنها ثورة لنخب تريد التقسيم وإقامة فيدرالية، فهذا العجز في آلة النظام الإعلامية كان محسوباً ومتوقَّعاً، فهو صار عبئاً ثقيلاً حتى على داعميه الروس، بعد انعدام الإفادة منه في مشاريع استراتيجية، وبعد أن أدى منه ما هو مطلوب بدقة من انهيارات ممنهجة، فصارت جل قوته تصدير الكبتاغون وتهديد العالم ودول الخليج العربية به، وتصدير اللاجئين وتدفقاتهم إلى لبنان، وتهديد أوروبا كي تساوم هذا النظام على أرواح الشعب السوري المعذب..

ارتضوا لأنفسهم هذا الابتزاز وهذه المهانة بعد أن رهَنوا الدول ومقدراتها وشعوبها بيد إيران، وأضعفوا أجهزة الحكم ومؤسسات الدولة، وعززوا وأمعنوا في تعزيز الخطاب الديني والفئوي المتطرف

سيبقى ومن دون نهاية، سقف الانهيار على أنواعه في لبنان وسوريا والعراق بالتحديد، كونه محكوماً بانتهاء الصراع الإقليمي والدولي المتشابك، خصوصاً أن القوى السياسية المحلية في البلدين، قد اعتادت على إدارة بلاد مشلولة فاقدة للقرار، وكيانات ضعيفة يقرِّر في شأنها الأقوياء على الطاولة في الشرق الأوسط، وعملياً لن تتمكن نظم الحكم الميليشياوية في السلطة، من حل أزماتها الحالية بوجوهها السياسية والاقتصادية والأمنية، ولن تحصل على سلامها الداخلي، إلاَّ بعد إنجاز التسويات الجاري تحضيرها للمنطقة، فلا مساعدات ولا إنقاذَ اقتصادياً، إلاَّ إذا مشت هذه النظم في المسار الدولي الذي يتم التوافق عليه بين أصحاب القرار إقليمياً ودولياً. فهم ارتضوا لأنفسهم هذا الابتزاز وهذه المهانة بعد أن رهَنوا الدول ومقدراتها وشعوبها بيد إيران، وأضعفوا أجهزة الحكم ومؤسسات الدولة، وعززوا وأمعنوا في تعزيز الخطاب الديني والفئوي المتطرف، لتمكين حكم الأقليات الأكثر عنفاً في ممارسة السلطة وفي مفاصل الدولة، حتى صارت بمثابة دولة عميقة موازية.. من أجل الدخول في تسويات إقليمية صارت أكثر خضوعاً وتنازلاً من أسلوب حكمها الاستبدادي المقيت طوال خمسين عاماً وأكثر..