لا شك أن قبائل المغول قد نشأت وسط بيئة جغرافية ومعيشية قاسية صعبة، لذلك مارس المغول كل أشكال وأعمال العنف والتحايل على أسباب الوجود والبقاء، كل ذلك أدى إلى اكتساب المغول صفات نشوء اجتماعية فيها شتى أنواع الصعاب التي جعلتهم من أشرس وأخطر الشعوب الذين عرفهم تاريخ البشرية في ميادين الغزوات والحروب، وامتهانهم لكل أساليب القتل والتخريب والتدمير الهمجية التي ما عرفت الشعوب آنذاك مثيلا لها.
إن الظروف القاسية التي عاشها المغول في سهول آسيا الوسطى لعبت دورا كبيرا دفعهم للتفكير جديا في الغزو والتوسع وإيجاد مناطق نفوذ أكبر تتوافر فيها مقومات الحياة الأفضل. فما كان من "جنكيز خان" الذي لعب الدور الأكبر في تجميع ولم شمل قبائل المغول المتناثرة تحت لواء حكمه وتثبيت أسسه ودعائمه إلا أن بدأ بتوسيع مملكته وسرعان ما كان له ذلك، فأصبحت حدود هذه المملكة تمتد من "كوريا" شرقا إلى حدود "الدولة الخوارزمية الإسلامية" غربا، ومن سهول "سيبيريا" شمالا إلى "بحر الصين" جنوبا.
المغول و" هولاكو" واجتياح عاصمة الخلافة العباسية "بغداد"
دخل المغول بقيادة "هولاكو" خان، مدينة" بغداد" حاضرة الدولة العبَّاسية وعاصمة الخلافة الإسلاميَّة في شُباط "1258م" ، بتكليفٍ من الخاقان الأكبر "منكو خان" الذي طلب من أخيه "هولاكو" استكمال فتوحات المغول في جنوب غربي آسيا التي كان قد بدأها جدهما "جنكيز خان"، فتمكن جيش هولاكو من اقتحام بغداد بعد أن حاصرها 12 يوما، فدمر حضارتها ومكتباتها واستباح وأباد مُعظم سكّانها.
حقيقة لقد شكَّل اجتياح بغداد كارثةً وضربة كُبرى للعرب وللمُسلمين؛ إذ أحرق المغول كثيرا من المُؤلَّفات القيِّمة النفيسة في مختلف المجالات العلمية والفلسفية والأدبية والاقتصادية وغيرها، كما أضرموا النار في "بيت الحكمة" إحدى أعظم مكتبات العالم القديم حينذاك وألقوا بالكُتب في نهريّ دجلة والفُرات فاصطبغ لونهما بالسواد، كما فتكوا بالكثير من أهل العلم والثقافة، ونقلوا آخرين معهم إلى فارس، ودمروا كثيرا من المعالم العُمرانية من مساجد وقصور وحدائق ومدارس ومستشفيات.
المغول والإسلام
يعد أبو المعالي ناصر الدين "بركة خان" وهو الابن الرابع لجنكيز خان، واسمه قبل الإسلام "جوجي"، أول من أسلم من حكام المغول، وكان مغول الشمال "القبجاق" (القبيلة الذهبية) السباقين إلى الدخول في الإسلام متقدمين على بقية القبائل المغولية.
أسلم "بركة خان" عام 650هـ عندما كان عائدا من "قرة قورم" عاصمة دولة المغول الكبرى ومر بـ "بخارى" (مدينة في أوزباكستان اليوم) والتقى بأحد العلماء فيها. وبإسلامه دخل كثير من مغول الشمال الإسلام. وأصبحوا لبنات قوية في المجتمع الإسلامي فنشروه ونصروه بعد أن كانوا معاول هدامة له.
أولى "بركة خان" اهتمامه بالحياة العلمية والثقافية في مملكة القبجاق فأنشأ المساجد والمدارس والزوايا في جميع أرجاء البلاد، وقرب العلماء والفقهاء منه، حتى أن المؤرخ الفرنسي والطبيب غوستاف لوبون قال: "هؤلاء الهمج المتوحشون الذين هدموا الآثار والشواهد، وأحرقوا الكتب والمكتبات وأراقوا الدماء، وخربوا بغداد وعاثوا فيها فسادا هم أنفسهم الذين تحضروا لاحقا في مدرسة العرب والإسلام وأخذوا بعجائب الحضارة العربية والإسلامية، وأصبحوا من أشد حماتها، بعد أن تبنوا دينهم وحضارتهم، وقربوا إليهم علماءهم وأقاموا في الهند إمبراطورية قامت على عناصر هذه الحضارة العربية الإسلامية ومنجزاتها".
حضارة المغول التاريخية
من المهم من الناحية الثقافية التعرف على الإمبراطوريات والممالك والأقوام التي سبقتنا في هذا العالم، والاطلاع على الإرث الإنساني التاريخي والفكري الإبداعي الذي تركوه خلفهم، فالإمبراطورية المغولية، ورغم ماضيها الدموي العنيف المعروف تاريخيا، تركت تراثا خالدا تأثر وأثر بالثقافة العالمية بمجالات عديدة، فالمغول أول من أقام خطوط التواصل بين حضارات الشرق والغرب بحكم كبر إمبراطوريتهم وامتدادها عبر خُمس مساحة الأرض. كما شهدت الحقبة المغولية تقدما علميا وثقافيا واسعا. إذ كتب السلطان "بابور" مذكراته بنفسه، وكان السلطان "شاه جيهان" لغويّا بارعا في العربية والفارسية والتركية، أما السلطان "أورانجزيب" فلقد كان متحدثا بعدة لغات ومتخصصا في علوم القرآن وتدوين الفقه، أما السلطان" بهادرشاه" فقد كان شاعرا مهتما بالشعر والشعراء.
كانت دواعي التنوع في المحيط المغولي الإسلامي كثيرة وقوية، إذ شهدت "الكجرات" (مدينة هندية) بسبب موقعها الساحلي استقطاباً لكثير من العلماء من دول وممالك عدة، كما اشتهرت الكجرات على يد السلطان "أكبر" بعلم الحديث والترجمة التي باتت على يده تشهد حركة واسعة.
أما من الناحية الإدارية والحقوقية، فلقد كانت الإمبراطورية المغولية تهتم بالقوانين التي تحكم مجتمعاتها، وأصدرت قوانين تمنع صيد الحيوانات في مواسم تزاوجها، ومنع بيع النساء، كما اعتبرت السرقة بكافة أشكالها جريمة يعاقب عليها القانون، وتم إعفاء الفقراء من الضرائب. كما اهتم المغول بشكل كبير بالبريد والاتصالات، فطوروا النظام البريدي الذي كان يسمى "اليام"، فكان السعاة يتجهزون باللباس المناسب والمؤونة الكافية والخيول الإضافية لضمان عدم حدوث أي تأخير في إيصال البريد.
من الناحية الاقتصادية، كانت الإمبراطورية المغولية منذ بدايات تكوينها تشهد تطورات وانفتاحات على كل ما هو جديد، فسمح "جنكيز خان" عام 1227م باستخدام العملات الورقية التي أصبحت تتداول إلى جانب المعادن الثمينة والحرير، واستخدم المغول أيضا القطع الفضية الصينية كعملة تتداول في كل أرجاء الإمبراطورية. وقاموا بطبع عملتهم الورقية الخاصة وتأسيسهم لإدارة مهمتها إصدار وإتلاف القديم من العملات.
أما من الناحية الفنية، فقد ترك المغول عشرات اللوحات والمنمنمات والزخارف الفنية الجميلة التي تعود إلى العصر المغولي والموجودة حاليا في العديد من المتاحف المنتشرة حول العالم.
كما تعد مقبرة الإمبراطور المغولي "نصر الدين همايون" الموجودة في"دلهي" بالهند من أهم وأبرز آثار الحضارة المغولية السياحية حيث ضمتها منظمة اليونسكو كأهم موقع للتراث الإنساني العالمي في عام "1993".
المغول وضريح "تاج محل"
كثيرون ربما لا يعلمون أو لا يتبادر إلى أذهانهم بسبب ما عرفوه عن دموية المغول وهمجيتهم الحربية والقتالية، أن الصرح المعماري المسمى" تاج محل" الذي يعد أحد أجمل عجائب الدنيا وأحد أكثر المعالم الأثرية شهرة في العالم، هو ضريح مغولي ومسجد، يتميز من جهة التصميم والزخارف والمواد المستعملة (مرمر أبيض) بالطابع الإسلامي. بناه الإمبراطور المغولي "شاه جيهان" تكريما لذكرى زوجته "ممتاز محل" التي دفنت به في مدينة "أكرا" شمالي الهند. وأعلنت اليونيسكو عام "1983" ضريح تاج محل موقعا للتراث العالمي ووصفته بأنه درة الفن الإسلامي في الهند ومن أجمل نماذج التراث العالمي الفني.
ويعتبر تاج محل من أروع الأمثلة على تطور الفن المعماري عند المغول، حيث إنه جمع في تناغم جميل بين العمارة الإسلامية والهندية والفارسية. وبدأ بناء تاج محل سنة "1632"م وانتهى بناؤه سنة" 1653"م، وشارك في البناء نحو 22 ألفًا من العمال والمهندسين، ويحتوي الضريح في داخله مسجدا وقصرا للضيافة استغرق بناؤهما خمس سنوات.
إن الصورة التاريخية النمطية المأخوذة عن المغول والمعروفة عند معظم الناس أنهم همجيون متوحشون يفتقرون لمعالم الإنسانية والحضارة، وحاربوا الإسلام والمسلمين ونكلوا بهم، ولكن هذه الصورة لا تمثّل سوى الجزء الأسود المظلم من سلوكهم الذي نقل عنهم، والتاريخ يشهد بأن قبيلة "القبجاق" المغولية التي تحولت لتصبح أشد المناصرين والمدافعين عن الإسلام بأبهى صوره الحضارية كان لها لمسات إبداعية. فقد عمل المغول وعلى رأسهم الخانات والأمراء والملوك على ترسيخ مظاهر الحضارة الإسلامية في المملكة الذهبية كغيرها من البلاد الإسلامية، وحرصوا على توثيق كل ما هو إسلامي ذو طابع حضاري في تصرفاتهم وحياتهم العامة والخاصة.