icon
التغطية الحية

المعرفة (الأكاديمية) بين الوصف والتقييم

2024.08.17 | 14:36 دمشق

7686786
+A
حجم الخط
-A

ليس نادرًا، في الحياة اليومية، أن يقول شخصٌ عن شخصٍّ آخر إنّه "غشيم أو فهيم" "بخيل أو كريم" "شجاع أو جبان" ... إلخ، ويشدِّد، في الوقت نفسه، صراحةً أو ضمنًا، على أنّ ما يقوله مجرّد وصفٍ لا يتضمّن أي تقييمٍ. ويتأسّس هذا التشديد على ما يبدو أنّه مسلمةٌ أو بديهيةٌ، كانت منتشرةً، حتى في أبحاث "النخبة الأكاديمية"، إلى فترةٍ ليست ببعيدةٍ، تفصل فصلًا كاملًا وحاسمًا بين الوصف والتقييم، بين الواقعة والقيمة، بين ما هو كائنٌ وما ينبغي أو يجب أن يكون.

القول بوجودِ مفاهيم معياريةٍ كثيفةٍ؛ أي مفاهيم تتضمّن وصفًا وتقييمًا في آنٍ واحدٍ، أمرٌ حديثٌ نسبيًّا، ويعودُ إلى خمسينيات القرن العشرين، على أبعد تقديرٍ، وإلى ثمانينياته، على أقرب تقديرٍ. وتكمن أهمية القول بوجود هذه المفاهيم في تنبيهنا إلى أنّ مفاهيمًا وأحكامًا كثيرةً نظنّها وصفًا خالصًا، في حين أنّها تقييميةٌ (أيضًا)، لدرجةٍ أو لأخرى. ويمكن لهذا التنبيه أن يبيِّن ضرورة الانتباه أكثر لمضامين كلامنا وكلام غيرنا، بما يسهم في امتلاكِ فهمٍ أكبر لأنفسنا ولغيرنا، أيضًا. وانطلاقًا من ذلك، يمكن لذلك الانتباه، وهذا الفهم، أن يساعدا على تجاوز الكثير من حالات سوء/ عدم الفهم التي تَحدث في التواصل (اللغوي) بين البشر.

يمكن للمفاهيم ذات البعد المعياري أو للمفاهيم المعيارية الكثيفة أن يكون لها تقييماتٌ مختلفةٌ عبر الأزمنة والأمكنة والسياقات المختلفة وهذا هو حال مفاهيم الديمقراطية والعلمانية والليبرالية على سبيل المثال

أمّا أهمية هذه المسألة، بالنسبة إلى الفكر والمعرفة عمومًا، فأجدها كبيرةً (جدًّا). فمن ناحيةٍ أولى، تُساعدنا على إدراكِ مدى التشابك، اللغوي على الأقل، بين الوصف والتقييم في أحيانٍ ليست قليلةً. ويمكن لإدراك هذا التشابك أن يسمح لنا بوعي القيم أو التقييمات الضمنية الموجودة في ما قد نظنّه وصفًا خالصًا، ومن ثم تبنّي تلك القيم أو التقييمات أو اتخاذ موقفٍ نقديٍّ أو انتقاديٍّ منها. ومن ناحيةٍ ثانيةٍ، وفي ما يتعلّق خصوصًا بالخطاب "النخبوي" أو الأكاديمي الذي يُفترض أو ينبغي له أن يُنتج معرفةً من جهةٍ، و/ أو أن يكون واعيًا بالأحكام المعيارية، الضمنية أو الصريحة، التي يتضمّنها خطابه، من جهةٍ أخرى، نجد أنّ ذلك الخطاب ينكر، أحيانًا، معياريةِ خطابه، بالمعنيين المعرفي أو النفسي للإنكار. فالإنكار قد يتأسّس على جهلٍ أو عدم إدراك لوجودِ تلك المعيارية، أو قد يتخذ صيغة رفض الإقرار بوجود تلك المعيارية، على الرغم من إدراكه أو وعيه لوجودها.

***

وانطلاقًا من تجربتي (غير) المتواضعة في الأكاديميا الغربية والعربية والفكر العربي عمومًا، أجرؤ على الزعم أنّ نصوص الأكاديميا الغربية تتضمّن، غالبًا على الأقل، نتاجًا أو إنتاجًا معرفيًّا ما، لدرجةٍ أو لأخرى، من دون أن يكون هناك، في أحيانٍ كثيرةٍ، وعيٌ و/ أو اهتمامٌ و/ أو تصريحٌ بالمتضمّنات أو الأسس أو الغايات المعيارية/ الأيديولوجية لتلك المعرفة. في المقابل، يهيمن التوجّه المعياري في الفكر (النخبوي) العربي، عمومًا، بما يفضي إلى ضعفٍ في إنتاجه المعرفي، من دون إدراكٍ أو إقرارٍ (واضحٍ)، غالبًا، بتلك الهيمنة وبذلك الضعف، وبالصلةِ الوثيقة بينهما. ومن جهةٍ أولى، يمكن فهم أو حتى تفهّم الحضور البارز للبعد المعياري في الفكر العربي النخبوي أو الأكاديمي، فحالة النفور أو الغضب مما هو كائنٌ تجعلنا ننشغل كثيرًا في البحث عمّا نرى أنّه يجب أن يكون. في المقابل، ومن جهةٍ ثانيةٍ، يبدو مفيدًا وضروريًّا التركيز، (أيضًا)، على وصفِ ما هو كائنٌ وتحليله وفهمه، بتفصيلٍ ووضوحٍ شديدين، حتى إذا كان الغرض الأساسي لذلك الفكر الإسهام في تغيير ما هو كائنٌ، للوصولِ إلى ما يرى أنه ينبغي أن يكون.

وانطلاقًا من رؤيتي المزدوجة المذكورة للعلاقة بين المعرفي والأيديولوجي، أو الوصفي التحليلي والمعياري التقييمي، في الأكاديميا الغربية والعربية، أميل كثيرًا إلى مناقشةِ البعد المعياري في سياق وجودي في الأكاديميا الغربية، في حين أنّني، أحيانًا، أميل أكثر إلى مناقشة البعد المعرفي وضبطه، خلال تفاعلي مع الفكر العربي النخبوي أو الأكاديمي. وأظن أنّ ذلك هو أحد الأسباب التي أفضت إلى هيمنةٍ ما للنقدِ في كثيرٍ من كتاباتي ومشاركاتي الشفهية، وإلى وجودِ بعض الصعوبات والتوترات في التفاهم أو التفاعل الفكري، في السياقين الغربي والعربي، على حدٍّ سواء.

لا يمكن للوصف، بوصفه وصفًا خالصًا، أن يكون معاكسًا للتقييم؛ لأنّهما من جنسين مختلفين. التعاكس يمكن أن يحدث بين وصفٍ ووصفٍ، أو بين تقييمٍ وتقييمٍ، أو بين بعدٍ تقييميٍّ في الوصف وحكمٍ تقييميٍّ ما. ويمكن للمفاهيم ذات البعد المعياري أو للمفاهيم المعيارية الكثيفة أن يكون لها تقييماتٌ مختلفةٌ، عبر الأزمنة والأمكنة والسياقات المختلفة. وهذا هو حال، مفاهيم الديمقراطية والعلمانية والليبرالية على سبيل المثال. أما في مثالي الشجاعة والكرم، فلا أظنّ أنّ هناك بعدًا أو حكمًا تقييميًّا سلبيًّا تجاههما، من حيث المبدأ، لكن من الضروري، هنا، التمييز بين الكرم والتبذير أو "البعزقة" أو "إهدار المال"، والتمييز بين الشجاعة والتهوّر. ولتوضيح هذا التمييز، يبدو مفيدًا العودة إلى التعريف الأرسطي للفضيلة بوصفها، غالبًا، وسطًا (ذهبيًّا) بين طرفين متطرفين، أحدهما إفراطٌ والآخر تفريطٌ. وعلى هذا الأساس، تكون الشجاعة وسطًا بين الجبن والتهور، ويكون الكرم وسطًا بين البخل أو التقتير والإسراف أو التبذير. هذه التمييزات تبيّن أنّ مفهوم الكرم غير مفهوم التبذير، ومفهوم الشجاعة غير مفهوم التهوُّر ... إلخ. وعلى الهامشِ، ومنعًا لسوء فهمٍ محتملٍ، أشير إلى أنّ أرسطو قد أدرك أنّ الفضائل ليست وسطًا بالضرورة، بل ثمّة فضائل يمكن أن يذهب فيها المرء إلى الحدِّ الأقصى، فتزداد فضيلة ممارسته تلك. ومن تلك الفضائل الأمانة والنزاهة، على سبيل المثال.

***

الإشكالية، النظرية والعملية، تقع في تحديد الماهية الدقيقة للمفهوم أو ما صدقاته؛ أي الحالات التي يتجسّد فيها ذلك المفهوم. فكرمُ شخصٍ قد يكون، في منظارِ شخصٍ آخر، بخلًا، وشجاعة شخصٍ قد تبدو، في عين شخصٍ آخر، تهوّرًا أو جبنًا. وقد يكون هناك تصوّراتٌ conceptions مختلفةٌ للمفهوم concept الواحد. وهذا أمرٌ مرجَّحٌ، خصوصٌا إذا أخذنا في الحسبان أنّ المفهوم لا يكون مفهومًا إلا إذا كان هناك اختلافٌ حوله أو حول معانيه (الثانوية) وتصوّراته. والقيمة الإيجابية أو السلبية لمفهومٍ ما تعتمد على السياق، وعلى مدى وجود تفاضلٍ أو صراعٍ بين القيم في سياقٍ ما. فمن حيث المبدأ، الصدق ذو قيمةٍ معياريةٍ إيجابيةٍ، والكذب ذو قيمةٍ معياريةٍ سلبيةٍ، لكن قد يحصل العكس ويكتسب الكذب قيمةً إيجابيةً، والصدق قيمةً سلبيةً، في بعض السياقات؛ كأن يكذب شخصٌ ما لحماية شخصٍ آخر (بريءٍ) من مجرمين يبحثون عنه لقتله. لكن هذه الممكنات السياقية لا تعني أنّ الصدق، بحدّ ذاته، أمرٌ سلبيٌّ، والكذب، بحدّ ذاته، أمرٌ إيجابيٌّ، بل تعني أنّ ثمّة قيمًا أخرى قد تكون ذات أولويةٍ أكبر، ومرتبةٍ أعلى، من قيمة الصدق، بما قد يقتضي التضحية، المسوَّغة أخلاقيًّا، بتلك القيمة الأخيرة، في سبيلِ تحقيق القيم الأخرى المشار إليها.