المصالحة الاجتماعية في مناطق الشمال السوري

2024.09.03 | 06:11 دمشق

543333333333
+A
حجم الخط
-A

يعتبر مفهوم المصالحة الاجتماعية، كغيره من التعريفات الأكاديمية في العلوم الإنسانية، من المفاهيم المعقدة التركيب وغير المؤطّرة ضمن تعريف أكاديمي محكم، حيث يأتي ضمن سياق نزاعات متباينة الهوية وقد يعبر عن نفسه وفق حاجة كل نموذج وتشابكاته.

وقد احتاجت الأمم المتحدة إلى أكثر من خمسة عقود لتفرز بابًا للمصالحة الوطنية، وقد حدث ذلك في عام 2004 بعنوان "المصالحة الوطنية في مرحلة ما بعد الصراع ودور الأمم المتحدة". وتعتبر المصالحة الوطنية مقومًا أساسيًا من مسار العدالة الانتقالية، حيث تتناول ضمان الانتقال من الحرب الأهلية إلى التسوية السياسية الشاملة على مستوى الدولة والمؤسسات، ويمكن تحقيق ذلك من خلال وساطة أممية أو دولية أو إقليمية.

لم يحظَ مصطلح المصالحة المحلية بالاهتمام الكافي، ويختلف تعريفه وفق كل سياق نزاع ببعدٍ محلي ضمن المجتمع المحلي. يشير المصطلح، وفق التجربة الرواندية، إلى إمكانية بناء مجتمعات محلية جديدة متسالمة ومتصالحة محليًا واجتماعيًا بعد انتهاء أو خلال جمود الحروب أو النزاعات، من خلال تجاوز الأطراف المتنافرة لمصالحها المتضاربة، وبدء بعض إجراءات بناء الثقة من خلال المبادرات الاجتماعية، وتعزيز ثقافة الحوار والاعتذار، ورفع مستوى الوعي، والنظر نحو مرحلة أو مستقبل جديد، والسعي نحو الاعتراف بحق كل الأطراف في العيش في مجتمع ودولة جديدة.

يدل المصطلح، وفق نموذج أوغندا، على إيقاف المجتمعات للعنف وإعادة بناء العلاقات المنقطعة، ويعتمد على بناء القواعد الاجتماعية ويقدم حلولًا وفق رؤية المجتمع المحلي لذاته، للتمهيد نحو تحقيق حل وطني وتحول ديمقراطي أكثر سلاسة من النماذج التي تحقق الانتقال قبل تحقيق هذا المستوى المطلوب في النزاعات. بجانب تمكين "الإرادة العامة" التي استخدم جان جاك روسو مصطلحها في القرن الثامن عشر في سياق الوعي الاجتماعي، للدلالة على ضرورة تمكين المجتمع المحلي وتعريفه بحقوقه وواجباته واحترام الفئات الاجتماعية الأخرى من خلال التعليم.

يمكن التفريق بين مصطلح المصالحة الوطنية والمحلية؛ فالمصالحة المحلية لا يمكن أن تشارك فيها أطراف خارجية، وإنما تعتمد بدرجة أساسية على المبادرات الاجتماعية المدنية، على عكس المصالحة الوطنية التي يلعب فيها العامل السياسي دورًا كبيرًا في تشكيلها.

بالتالي، في الوقت الذي يركز فيه مفهوم المصالحة الوطنية على حل شامل لحرب أهلية أو نزاع داخلي ضمن دوائر الدولة ومؤسساتها، تولي المصالحة المحلية أهمية لتجاوز مخلفات الحرب وتأثيرها على أواصر المجتمع وبنيته كأفراد ومجتمعات أهلية، وبدء مسار السلم الأهلي، وذلك دون أن يتطلب الأمر انتظار توصل الأطراف الدولية أو الإقليمية لخارطة طريق للحل السياسي، ما يعني أن المصالحة المحلية هي المسار الذي يسبق المصالحة الوطنية ويمهد لها من خلال تقديم حل شامل للحروب والنزاعات.

على المستوى السوري، خاصة في مناطق المعارضة، ما يزال مفهوم المصالحة المحلية غير متبلور بشكل متماسك في مجتمع عايش صراعات متتالية. وإن كان هناك إجماع على بعض مقوماته، إلا أن ذلك ليس عامًا، وفي الغالب تربط شريحة المجتمع المحلي في الشمال السوري المصطلح بالتحديات اليومية التي يعيشونها، والتي تدفع للمكوث عند حدود معينة وعدم التطرق للمساحات الأخرى الواجب تلمسها.

يعتبر العامل الاقتصادي من أهم مداخل المصالحة الاجتماعية في حالة الشمال السوري، في ظل صعوبة توفير الموارد وفرص العمل وتحقيق التنمية والاستقرار بالحد الأدنى.

يمكن تعريف المصطلح وفق ما تراه تلك الشريحة بالقدرة على تحقيق السلم الأهلي بين المجتمع الأصلي والنازح خلال التهجير ضمن الهوية الوطنية الثورية، وذلك عبر تأطير مقومات المصالحة بعدة جوانب: الهوية والانتماء، والعادات والتقاليد، الاقتصاد والموارد، السلطة والحوكمة، الواقع الأمني وسيادة القانون، الوعي والتعليم، المساءلة والمحاسبة. كل ذلك ينطلق من إشكاليات المجتمع التي يعاني منها، والتي قد لا تتطابق مع إشكاليات مجتمع آخر. ومن هنا يبرز تمايز المصطلح على أنه يخضع للأبعاد المحلية أكثر من كونه مرتبطًا بتعريفات جامدة أو متحركة إلى حد ما.

يعتبر العامل الاقتصادي من أهم مداخل المصالحة الاجتماعية في حالة الشمال السوري، في ظل صعوبة توفير الموارد وفرص العمل وتحقيق التنمية والاستقرار بالحد الأدنى، وارتفاع الأسعار مقارنة بالدخل وطبيعة المنطقة الاقتصادية ومواردها، بجانب ضرورة الاستفادة بشكل أكبر من الموارد المتاحة، سواء تلك الزراعية أو الصناعية والبشرية. وبالتالي، ما يحفز المشكلات هو الصراع على الموارد في ظل غياب العدالة في توزيعها مع أزمة النازحين، ووجود اقتصاد الحرب الذي يستغل الموارد. وهذه العوامل تنشئ المشكلات على الصعيد المحلي. على سبيل المثال، أدى ارتفاع أسعار ربطات الخبز من ليرة إلى ليرتين مع تقليل وزنها إلى مظاهرات شعبية تندد بالقرارات الصادرة عن المجالس المحلية في الشمال وذلك في عام 2021.

بجانب أهمية البعد الحوكمي في ظل انتشار الفصائل العسكرية، وعدم احتكامها للقوى المدنية البديلة التي تشكّلت عند تحقيق الاستقرار، في قضايا عديدة يأتي على رأسها انتشار المخدرات، وفوضى السلاح. ما يعني أن المجتمع المحلي واعٍ جدًا بأن المصالحة تتطلب سيادة قانون لرد الحقوق وردع المعتدي، وغيابها يحفز استسهال حدوث المشكلات.

يربط المجتمع المحلي المصالحة بالقدرة على تجاوز حدود الانقسام بين هذه الهويات الفرعية التي نشطت أكثر بعد الثورة وفي ظل تأزم الصراع، وعدم وجود هوية وطنية سورية جامعة.

إن ضعف الهوية الجامعة، وغياب سيادة القانون يؤديان إلى تجاوزات عديدة بين المجتمع المضيف والنازح. على سبيل المثال، تحدث بين فترة وأخرى اشتباكات فصائلية غالبًا ما تحمل بعدًا عشائريًا، منها الاقتتال الذي حدث بين مقاتلين من دير الزور وريف دمشق.

وفي معرض الهوية، لا بد من الإشارة إلى الهشاشة الحوكمية لدى القوى المسؤولة عن حفظ أمان المنطقة، وضعف قدرتها على تطبيق القوانين الصادرة بسبب ضعف الهياكل المؤسساتية أمام حالة الفوضى والفصائلية، وضعف ملاحقة متجاوزي القانون أو القرارات الصادرة عن المجلس المحلي في المدينة، مما ساهم بتفشي ظاهرة تعاطي المخدرات بشكل لا بأس به، مع صعوبة الضبط والملاحقة. بالتالي، إن تحقيق مقومات الحوكمة لا يكتمل إلا بوجود سلطة ومؤسسات قوية يناط بها تحقيق عدالة توزيع الموارد وفرض سيادة القانون وتعزيز شكل ومضامين النظام الإداري، ورفع مستوى الانتماء الوطني. على سبيل المثال، يؤدي التنافس بين الحكومة المؤقتة والمجلس المحلي في المدينة إلى تعثر تطوير القطاع الحوكمي وغياب السلطة وسيادة الواقع الفصائلي.

قد يكون من الصعب معالجة مفهوم المصالحة في السياق السوري دون الإشارة إلى البعد الهوياتي، الذي يمكن تعريفه على أنه المسار الذي يؤدي إلى تجاوز الفئات والمجموعات ذات الاختلاف المناطقي والعشائري والإثني لمشكلاتهم السابقة الناجمة عن عوامل الاستبداد التي فرضها النظام السوري من الناحيتين السياسية والاجتماعية، وما تبعه من تهجير قسري. وبالتالي، يربط المجتمع المحلي المصالحة بالقدرة على تجاوز حدود الانقسام بين هذه الهويات الفرعية التي نشطت أكثر بعد الثورة وفي ظل تأزم الصراع، وعدم وجود هوية وطنية سورية جامعة.

تجاوز المصطلح في محاولة معالجة الشمال السوري، باعتبار وجود تصالح وانسجام بين المكونات السورية في الشمال على أساس أنها منتمية في المجمل لمعتقد ديني واحد، والتركيز على مشكلات أخرى متعلقة بجوانب تفصيلية، مثل عدم وجود سلطة مركزية، يجعل إمكانية تحقيق الاستقرار في المنطقة صعبة. لأن عوامل عدم الاستقرار مرتبطة بالقدرة على مواجهة التحديات الاجتماعية، وهذا لا يعني أن المصلح يعالج الجانب الاجتماعي فقط، وإنما يهتم بشكل كبير أيضًا بالجانب الإداري والحوكمي، لكنه ينطلق بشكل أساسي من العوامل الاجتماعية لأنها أساسية في بناء نموذج اقتصادي وحوكمي مستقر.