إن أي متابع عادي أو متخصص في عالم الإعلام لا يمكنه تجاهل "الفورة الإنتاجية" التي طرأت على صعيد الإنتاج الدرامي العالمي والترفيه من مسلسلات تلفزيونية وأفلام وحتى برامج و"ألعاب أنيمشين"، تلك التي وجدت نصيبها من العرض "البث الأساسي" وغالباً الحصري عبر بعض أهم المنصات والتطبيقات الرقمية العالمية مثل (Netflix), (Nordic HBO), (Amazon Prime) , (Apple TV)، (Funcom).
إن هذه القفزة الاستثنائية في مجال الإعلام الرقمي ترافقت مع تطور ملحوظ لترابط العديد من العناصر المهمة منها:
- قوة وسرعة انتشار الشبكة العنكبوتية "عبر الستريمنغ" أو ما يسمى تدفق البث عبر النت.
- التطور الملحوظ في سرعة انتشار الأجهزة الذكية سواء أجهزة "الموبايل" أو التلفزيونات.
- ازدياد ميزانيات الاستثمار المالي وارتفاع معدلات الجدوى الاقتصادية في الإنتاج الدرامي.
وهنا لا يمكن تجاهل الدور الريادي للشركات الأميركية في أهمية تطور هذا القطّاع العالمي الناشئ. فمع بدء انتشار ظاهرة اليوتوب والفيميو طرأ تغير نوعي في عالم الفيديو حيث بدأت ظاهرة الأقراص المدمجة بالانحسار تدريجياً وقنوات الكابل بالتراجع، لتفسح المجال لعالم جديد منافس بقوة وهو عالم المنصات الرقمية والبث الحي عبر الإنترنت، حيث شهدت (نتفليكس) نسبة ارتفاع 33٪ لترتفع قيمتها السوقية إلى 188.8 مليار دولار، مقابل 142.2 مليار دولار قبل الكورونا.
وبالطريقة نفسها التي أنعشت فيها أزمة كوفيد-19 العديد من المنصات الرقمية نجد أن وجود هذه المنصات سينعكس أيضا عالمياً على إنعاش سوق الإنتاج الدرامي والترفيه بالضرورة.
على المستوى العالمي تتنافس سيرفرات شركة الأمازون الأميركية عبر منصتها (أمازون برايم) مع منصة (ورديك هيبو) و(الأبل تي في) مع (نتفليكس) يتنافسوا جميعاً على استقطاب أكبر عدد من المشاهدين والمشتركين في أنحاء العالم كلها.
باستثناء بعض التجارب القليلة في عالمنا العربي مازالت تجارب المنصات الرقمية محدودة جداً، أنا هنا لا أتحدث عن)،VIPمنصات "البث" مثل منصة (شاهد). وإنما عن المنصة التي تكتسح العالم (نتفليكس) التي رغم أنها فسحت المجال لمشاهدة وبث العديد من الأفلام والمسلسلات العربية لكنها مازالت تتلمس بحذر سوق الإنتاج الدرامي العربي. من خلال تجارب إنتاجية بدأتها في الأردن مع مسلسل "جن" الذي أثار عاصفة من الانتقادات الشعبية، لتنتقل بعدها إلى لبنان مع تجربة لطيفة لمسلسل "دولار" ثم إلى تجربة مازالت جديدة مثل مسلسل (المنصّة). لكن للأسف عموماً مازال الإنتاج العربي ضعيف جدا مقارنة بباقي أجزاء العالم والأمم.
تعتمد نتاجات "نتفليكس" على مفهوم الصناعة والمتعة بمعنى آخر توفر لمشاريعها ميزانيات عالية نسبياً على صعيد الإنتاج. فمن حيث الجانب التقني تجد أن لديها ضوابط عالية وجيدة لمستوى الصورة وجودتها، الصوت، المونتاج، الموسيقا ولكافة العمليات الفنية في أفلامها تعطي وتطلب الأفضل. أما على صعيد المضمون من الواضح أنها تستفيد من مفهوم عمل "الورشات في السيناريو"، أي مرور "السكريبت" عبر عدة ورشات لتطويره من الفكرة الأولية إلى المنتج النهائي الجاهز للتصوير.
لا بد من الإشارة هنا إلى أنه منذ سنوات طويلة وأفضل كتّاب السيناريو في أميركا انتقلوا للعمل في المسلسلات التلفزيونية، فجودة وذكاء السيناريو لم يعد مقتصراً على الأفلام السينمائية في هوليوود، لذلك نجد أن السيناريو والحبكة والحوار في مسلسلاتها تأتي محكمة متماسكة شيقة، رشيقة وناجحة درامياً، تلجأ بعدها إلى مخرجين متمرسين يختارون بدقة كادر التمثيل، ثم توفر لعالم التصوير أفضل الإمكانيات اللوجستية وتؤمن للعمل أفضل وسائل ما بعد الإنتاج من عمليات "أفتر إيفيكت" أو حتى "تصاميم الغرافيك" وتأليف موسيقي وهندسة الصوت. أي باختصار أصبح لدى هذه المنصات مستوى عالي من النوعية والكيفية لا تقبل بأي إنتاج عشوائي لا تتوافر فيه هذه الشروط. وهذه أحد أوجه التحدي الذي تفرضه هذه المنصات لمنافستها أو لمشاركتها عمليات الإنتاج في منطقتنا العربية يتوجب وجود كوادر فنية عالية وإمكانات مادية جيدة تُصرف على الإنتاج.
لذلك أصبحنا نجد موجة من المسلسلات الكورية الجنوبية، والإسبانية، والبرازيلية، والمكسيكية، الفرنسية بل وحتى الروسية وبالطبع الأميركية.. مسلسلات من كل جهات الأرض تتمثل وتتكيف مع نمط أو "ستايل" نتفليكس سواء في شكل المسلسل أو في المحتوى أو حتى عدد الحلقات. إذ استطاعت هذه المنصة أن تعيد الاعتبار إلى المسلسلات التلفزيونية القصيرة التي تعتمد على 6 حلقات أو 8 حلقات.
"جمهورية " نتفليكس
إن منصّة نتفليكس تكاد تكون أكبر وأغنى منصات الترفيه الحالي وتكاد تشبه أي "جمهورية" لكن بالرغم من أنها جمهورية "خيالية" إلاّ أن نتاجها حقيقي وتكاد تكون حقيقية بالنسبة لـ 223 مليون مشترك فيها.
فبالرغم من حرفية ومهنية مسلسلات وبرامج وأفلام هذه المنصة إلا أن المثير للقلق فيها أنها قد بدأت تأخذ الدور الذي كانت تلعبه هوليوود في نتاجها وأفلامها التي كانت تخلق تأثيرا في طباع الناس ولباسهم، طرق تصرفهم، أخلاقهم، بل وطريقة كلامهم، من المقلق أيضا أن طريقة تناول هذه المنصّة ومحاكمتها لبعض المواضيع التي كانت تابو في الماضي مثل قضايا بيع وتهريب المخدرات، السرقة، الجنس، أو حتى القتل.. لا أقول أن هذه المنصة تدافع عن هذه المواضيع لكنها تناولتها بطريقة تكاد تكون "إيجابية" بل "ومتفهمة" لدوافع الإجرام. فأصبح أبطال هذه المسلسلات نمط للموضة عند جيل واسع من جيل الشباب مثل مسلسلات (بريكنغ باد. بيت الوراق. اسكوبار، أميرة الجنوب.الخ)
والمقلق أيضا فيما تقدمه هذه المنصة أن روايتها وتصورّها لبعض الأمور التاريخية والصراعات السياسية في العالم قد ينطوي على أخطاء فظيعة بل و"ابتعاد" عن الموضوعية. فمن خلال تقديمها لمسلسلاتها الدرامية يصبح الأمر وكأنه توثيق حقيقي لواقع الأحداث. ويتم خلط الواقع الدرامي بالجانب التوثيقي. مثال مسلسل "فوضى" عن الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي أو مسلسلها عن الجاسوس الإسرائيلي "كوهين" أو حتى عن واقع ثورة 23 تموز في مصر سنة 1953 من خلال مسلسل "الملاك" عن صهر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر. ففي ظل عالم النت وعالم "الوجبات السريعة" الجاهزة في الإعلام وتماشياً مع واقع المشاهد "الكسول"، وازدياد تعلّق الجمهور بالأجهزة النقّالة، أصبحت حكايات المسلسلات تبدو لهم وكأنها "الحقيقة".
رغم هذا القلق أظهرت منصّة نتفليكس مرونة عالية في مواكبتها للأحداث الأساسية في كوكبنا، فبعد 6 أشهر من بداية أزمة الكورونا نجد أنها تبث أول مسلسل درامي عن هذا الموضوع والطريف أنه قادم من روسيا، اسمه "في البحيرة" مسلسل شيّق عن وباء خطير يجتاح العالم ويحاصر موسكو.
كأي شركة عالمية وكمنافس اقتصادي تحاول نتفليكس أن تتعاطى بحيوية وسرعة وديناميكية مع الأحداث وأن خصوصية تعاطيها مع مجال الإعلام والترفيه سيؤدي ذلك إلى خلق منافسة حادة مع بقية الفنون في هذا المجال، من تلفزيون ومسرح وسينما. وإذا لم تُبدِ بقية الفنون تطورا ملحوظا على صعيد أدائها كشكل ومحتوى فقد تصاب بأزمة حقيقية في تواصلها مع المشاهدين والمهتمين.