صدر حديثاً عن "المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات" كتاب حمل عنوان: (كيف يقاتل تنظيم الدولة "داعش"؟ التكتيكات العسكرية في العراق وسورية وليبيا ومصر) للباحث والأكاديمي عمر عاشور .
يرصد الكتاب الذي يقع في 312 صفحة وقدّم له لاري ب. غودسون، البنية العسكرية التي كوّنت تنظيم "الدولة" (داعش) وأسلافه، ويركّز على عيّنة من معاركه في كل من الفلوجة والموصل والرمادي والرقة (مدينة ومحافظة) ودرنة وسرت وشمال شرقي سيناء. ويستند البحث فيه إلى العمل الميداني، وعشرات المقابلات مع جنود ومقاتلين خاضوا معارك ضد التنظيم وأسلافه من الجماعات الإسلامية المسلحة، علاوة على مئات المنشورات والإصدارات الصوتية والمرئية ذات الطابع العسكري للتنظيم.
تساهم نتائج البحث في فهم أفضل للفاعلية القتالية لحركات التمرد المسلح، وتُوفّر تبصّرات بشأن الكيفية التي يمكن أن يقاتل بها في المستقبل تنظيم داعش والتنظيمات ذات الفكر المماثل. وتوضح كيف أمكن تنظيمًا مكروهًا على نطاق واسع أن يتمدّد ليحتلّ أكثر من 120 مدينة وبلدة وقرية، من جنوب الفلبين إلى غرب ليبيا، وكيف أمكنه الصمود أمام تحالف عسكري ضم أكثر من 150 مؤسسة نظامية مسلحة وتنظيمًا مسلحًا غير نظامي.
داعش في العراق
في آذار 2019، أعلنت إدارة الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب عن هزيمة تنظيم داعش بعد حملة استمرت 5 سنوات، تضمّنت بعضًا من أعنف معارك المدن منذ الحرب العالمية الثانية. كان الإعلان متفائلًا أكثر من اللازم، وأشد ملاءمة للاستهلاك المحلي في حملة انتخابية منه للتعبير عن الحقائق على الأرض في العراق وأماكن أخرى.
ففي منتصف عام 2018، قدّرت وكالة الاستخبارات العسكرية الأميركية ومجلس الأمن التابع للأمم المتحدة أن تنظيم "الدولة" لا يزال يحتفظ بما يصل إلى 30 ألف مقاتل في العراق وسوريا فقط. ونفّذ التحالف الدولي ضده، حتى بعد تحرير الفلوجة والموصل والرمادي وغيرها من البلدات والقرى، 13 ألفاً و331 ضربة في العراق بين آب 2017 ومنتصف عام 2019.
كان تدهور تنظيم (داعش) مكلفًا من حيث الدم والمال؛ فقد وصف الفريق ستيفن تاونسند، قائد قوة المهام المشتركة في عملية العزم الصلب، معركة الموصل في عامي 2016 و2017 بأنها "أهم معركة حضرية منذ الحرب العالمية الثانية". تكبّد أفراد "الفرقة الذهبية" التابعة لجهاز مكافحة الإرهاب العراقي معدلات إصابة بلغت 60 في المئة في معركة تحرير الموصل في عامي 2016 و2017. وقُتل جميع قادة الكتائب الـ14 في الفرقة الذهبية في المعارك ضد التنظيم، وتكبّدت البشمركة الكردية العراقية ما لا يقل عن 2000 ضحية، والقوات النظامية العراقية أكثر من 10 آلاف ضحية خلال الحملة ضد تنظيم داعش في العراق. وبحلول آذار 2018، بعد تحرير الموصل، كانت تكاليف عملية العزم الصلب قد بلغت 23.5 مليار دولار أميركي.
داعش في سوريا
تمكّن التنظيم من السيطرة عسكريًا والتمتع بالنفوذ في نحو 50 في المئة من الأراضي السورية بحلول منتصف عام 2015، في مواجهة العديد من التنظيمات المسلحة الثورية وداعميهم من الدول القوية. يلخص الكتاب بإيجاز تطور الشبكات العسكرية الجهادية المرتبطة بتنظيم داعش بين عامي 2003 و2013. وقد اجتمعت لدى داعش قدرات قتالية وحشد عسكري كبير، وخاصة بعد 8 نيسان 2013 وقت الإعلان عنه، وتجسّد ذلك في التكتيكات العسكرية المستخدمة للسيطرة على محافظة الرقة.
بعد تلك الفترة، تغيرت الظروف السياسية، وتواصلت خسائر الأراضي والهزائم العسكرية لتنظيم داعش بعد خسارته محافظة الرقة. ففي محافظة دير الزور المجاورة، قاتل داعش ضد معظم الفاعلين المسلحين التابعين لدول أو دون الدولة في تلك المحافظة. وبين نيسان 2014 وكانون الثاني 2020، خاض التنظيم 14 حملة عسكرية في دير الزور، هجومًا ودفاعًا، وقاتل وحداتٍ من عشرة جيوش تتبع دولًا، ووحداتٍ تتبع 12 فاعلًا مسلحًا بدون الدولة، أو تحالفات بين فاعلين مسلحين بدون الدولة.
وفيما يتعلق بالمستقبل، أثبت التنظيم وأسلافه من التنظيمات في سوريا استطاعتهم أيضًا إعادة بناء قدراتهم العسكرية وحشدها حتى بعد الوصول إلى حافة الانهيار. وكما هي الحال في العراق، أتقن التنظيم التبديل الاستراتيجي بين أساليب الحرب التقليدية وحرب الغوار والإرهاب؛ كي يتجنّب الإبادة في سوريا. وتوفر المراجعة والتحليل بعض التوقعات بشأن الكيفية التي سوف يقاتل التنظيم (والتنظيمات المسلحة المماثلة) في سوريا، ولا سيما أن "البراعة العملية" متاحة، وأن التنظيمات المسلحة (دون الدول) كسرت احتكار المؤسسات المسلحة (التابعة للدول) وسائلَ العنف. وعلى المستوى الكلي، يرجَّح أن يتأثر مستقبل تنظيم الدولة في سوريا بتدمير أجزاء واسعة من الرقة ودير الزور وكثير من البلدات والمدن الأخرى، واستمرار الحرب في سوريا على الرغم من انحصارها في مناطق محددة، لكنها مهمة وكبيرة مع ذلك، وغياب آلية (آليات) موثوقة أو مستدامة لتسوية النزاعات والبيئة الوحشية الشاملة التي خلقتها سياسات النظام وحلفائه. ومن المرجح أن يبقى التنظيم أو تنويعاتٌ منه في مثل هذه البيئة، وربما ينهض مرة أخرى من رماده في سوريا.
(داعش) في ليبيا
وُلِد تنظيم الدولة الإسلامية في ليبيا بدايةً من 22 حزيران يونيو 2014، واستطاع تطوير قدراته القتالية تدريجيًا في ليبيا منذ ذلك الحين؛ ما أتاح له السيطرة على أجزاء من درنة في تشرين الأول/ أكتوبر 2014، وعلى سرت كلها بحلول نهاية أيار/ مايو 2015. وقد حدثت هذه السيطرة على الرغم من نقص الدعم المحلي وعدم وجود رعاية من دولة وغياب الجغرافيا الداعمة. وظهر أثر ذلك في جبهات القتال في سرت ودرنة بين حزيران 2015 وكانون الأول 2016، لتكون بذلك عيّنة تعكس كيفية قتال تنظيم الدولة في ليبيا.
وعلى المستوى الكلي، يُرجَّح أن يتأثر مستقبل تنظيم الدولة في ليبيا بتدمير أجزاء رئيسة من سرت ودرنة وبنغازي ومدن أخرى وعدم صلاحيتها للسكن، وذلك نتيجة المرحلة الأخيرة من الحرب الأهلية الليبية التي بدأت بمحاولتي الانقلاب اللتين قام بهما اللواء المتقاعد خليفة حفتر في شباط وأيار 2014، ومحاولة الاستيلاء على العاصمة طرابلس في نيسان 2019. وأشار تقرير لمجلس الأمن، صدر في تموز 2019، إلى أن نشاط التنظيم في جنوب ليبيا اكتسب زخمًا نتيجة انشغال الجيش الوطني الليبي بالمعركة حول العاصمة؛ فمنذ بدء القتال حولها في 4 نيسان 2019، هاجم مقاتلو التنظيم مراتٍ عدة بلدات زليتن والفقهاء وفزّان، وتمكّنوا من الاحتفاظ بها لساعات في كل مرة، ونجحوا في إطلاق سراح بعض أسرى التنظيم. ويرجَّح أن يستفيد التنظيم في ليبيا وخلفاؤه المحتملون المماثلون لتفكيره من مثل هذه البيئة كي يصمدوا، وربما كي يتمدّدوا في المستقبل.
عمر عاشور
أستاذ مشارك في الدراسات الأمنية والاستراتيجية، مؤسس ورئيس برنامج الماجستير في الدراسات الأمنية النقدية في معهد الدوحة للدراسات العليا، ومدير وحدة الدراسات الاستراتيجية في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات. عمل أستاذًا في جامعة إكستر، المملكة المتحدة (2008-2018)، وزميلًا باحثًا في معهد بروكينغز الأميركي (2010-2015)، والمعهد الملكي للشؤون الدولية البريطاني (تشاتام هاوس) (2015-2017)، وأستاذًا زائرًا في جامعتي برشلونة (إسبانيا) وبوغازيتشي (تركيا). يساهم على نحوٍ منتظم في وسائل الإعلام الغربية والعربية. صدر له عدد من الكتب والدراسات، منها: تحوّلات الحركات الإسلامية المسلحة (2009)؛ من السلاح إلى السلام: التحولات من العمل المسلح إلى العمل السياسي السلمي (2021).