شهدت سوريا مع نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين حراكاً سياسياً ملحوظاً، وكانت المرأة السورية حينذاك تعيش ضمن بيئةٍ اجتماعيةٍ يحكمها المنطق الذكوري الذي يجعل من الرجل صاحب الكلمة الأولى والأخيرة على أفراد أسرته، وعلى الرغم من ذلك كانت رغبة المرأة بالتحرر والنهوض أقوى من تلك القيود التي كبَّلتها لسنواتٍ طويلةٍ، لذلك لم يكن من المستغرب أن تبدأ الصحافة النسائية انطلاقتها من بين جدران البيت نفسه الذي كان في يومٍ ما سجناً لها عن طريق ما كان يُسمَّى بـ (الصالونات الأدبية).
ترافق ظهور تلك الصالونات مع تغيراتٍ سياسيةٍ عديدةٍ سمحت للمرأة بأن تتنسَّم حريتها، وقد لمعت أسماء مفكرات عربيات استطعن أن يثبتن وجودهنَّ على الساحة الثقافية مثل: ماري عجمي ومجلتها (العروس) التي أنشأتها عام 1910، ونازك العابد ومجلتها (نور الفيحاء) التي أنشأتها عام 1920م ونديمة المنقاري ومجلتها (المرأة) التي أنشأتها عام 1930. اشتملت هذه المجلات على موضوعات متنوعة تصدَّرتها القضايا النسائية، بالإضافة إلى موضوعاتٍ تاريخيةٍ واجتماعيةٍ وثقافيةٍ وتربويةٍ كُتبت بأقلام أدباء ومفكِّرين من كلِّ الوطن العربي مثل جبران خليل جبران وأحمد شوقي ووداد السكاكيني وغيرهم.
المرأة والمجتمع السوري قبل مئة عام
لا بدَّ لنا أن نتحدَّث بداية عن المنظومة الذهنية التي كانت تسيطر على المجتمع السوري في النصف الأول من القرن العشرين، أي الفترة التي ازدهرت فيها الصحافة النسائية، فقد كانت المرأة في ذلك الوقت تخضع لهيمنة السلطة الذكورية التي كانت ترى في المرأة مخلوقاً تابعاً، وتنحصر مهماتها داخل جدران المنزل.
تعدٌّ الصالونات الأدبية إحدى أهم الحواضن التي احتضنت العمل الصحافي النسائي فانطلقت الصحافة من عباءة تلك الصالونات، إذ كانت ملتقى المفكِّرين والأدباء
إلا أنَّ فئة قليلة من النساء استطعن التمرُّد على هذه السلطة المهيمنة، ومعظمهنَّ كنَّ ينتمين إلى أسرٍ عريقةٍ ومعروفةٍ، وكان لذلك دورٌ مهمٌ في نشأتهنَّ الثقافية. ومن المهم أن نذكر أنَّ بعض الكاتبات لم يكنَّ يكتبن بأسمائهنَّ الحقيقية خشيةً من ردَّة الفعل الاجتماعية مثل ماري عجمي التي كانت تكتب في بداية مسيرتها الأدبية باسم "ليلى".
الصالونات الأدبية بوصفها منطلق الصحافة النسائية
وتعدٌّ الصالونات الأدبية إحدى أهم الحواضن التي احتضنت العمل الصحافي النسائي فانطلقت الصحافة من عباءة تلك الصالونات، إذ كانت ملتقى المفكِّرين والأدباء الذين كانوا يطرحون في تلك الصالونات آراءهم حول قضايا الفنِّ والأدب والسياسة.
وكان صالون مريانا مرَّاش الحلبية أول الصالونات الأدبية في الشرق بمفهومه الحديث وعلى طراز الصالونات الأوروبية التي أعجبت بها عندما سافرت إلى أوروبا. وفي كتابها "الصالونات الأدبية النسائية حواضن للفنون والأفكار" تقول هبة الله الغلاييني: "أما روَّاد الصالون فكانوا من أدباء حلب ومثقفيها آنذاك، أمثال رزق اللـه حسون، الأديب قسطاكي حمصي، المفكِّر التربوي عبد الرحمن الكواكبي، هؤلاء المثقفون كانوا يجتمعون في صالونها لتبادل الآراء النقدية، واستعراض آخر نتاجاتهم الفكرية، ومطالعة كتب الأدب والتراث".
وبذلك استطاعت مريانا وغيرها من المفكِّرات أن يكسرن طوق العادات والتقاليد الاجتماعية السائدة آنذاك انطلاقاً من إيمانهنَّ العميق بدور المرأة الفعَّال والإيجابي في المجال الثقافي، وقد أدَّت الصالونات نتائج إيجابية مذهلة إذ دفعت المرأة إلى تحويل تلك النقاشات الدائرة بين المفكِّرين والأدباء من مجرَّد أحاديث عابرة إلى أحاديث موثَّقة في صحف يتمُّ نشرها بين الناس، مع التركيز على القضايا النسائية التي تهمُّ المرأة وتدفعها نحو تحررها وانعتاقها من قيود المجتمع التي كبتت طاقتها الثقافية.
تحدّيات الصحافة النسائية
ولم تسلم الصحافة النسائية من الأنظمة والقوانين السياسية التي كانت تتحكَّم بسوريا في ذلك الوقت، إذ كانت سوريا حينذاك تشهد تداعي الدولة العثمانية وما رافقها من اضطرابات سياسية واقتصادية، فمن الناحية السياسية فقد فرضت الرقابة دورها على حرية التعبير مجبرة بعض الصحف على الحدِّ من نشاطاتها أو إيقافها تماماً، كما فرضت على بعض الصحف أن تكون منبراً لمواقفها وآرائها لتحظى بدعم الأكثرية في الرأي العام، وتكسب الشعب إلى صفها.
أمَّا من الناحية الاقتصادية فقد سبَّبت الحرب العالمية الأولى أزمة مالية من ناحية التمويل وتأمين مستلزمات الطباعة والنشر، لذلك توقَّفت ماري عجمي عن إصدار مجلتها العروس من عام 1914 حتى عام 1918، إذ كانت تصدرها على نفقتها الخاصة.
وفي أثناء العهد الفيصلي عادت للصحافة حريتها. وبحسب شمس الدين الرفاعي الذي قال في كتابه "تاريخ الصحافة السورية واللبنانية من العهد العثماني حتى الاستقلال": "وربَّما كان هذا العهد من أجلِّ العهود وأخصبها للصحافة وللحركة الأدبية والعلمية في دمشق"، ولكن لم تدم أجواء الحرية طويلاً بسبب الاحتلال الفرنسي الذي كان يحارب الصحافة والصحفيين وهذا ما دفع ماري عجمي إلى مهاجمتهم في مجلتها مطالبة بإنهاء الانتداب واستعادة حرية سوريا، وممَّا يذكر أنَّ الفرنسيين كانوا "يحاولون إقناعها بالكفِّ عن مهاجمتهم في مجلة "العروس" وسواها، مقابل مبالغ ضخمة من المال تدفع لها، لكنَّها رفضت أيَّما رفض... وعندما أقضت مضاجع الفرنسيين بمقالاتها الثورية اللاهبة ردُّوا عليها بتعطيل المجلة نهائياً" عام 1926، وفق ما ورد في ديوان ماري عجمي.
الصحافة النسائية إذ تقارع الاستعمار
أمَّا نازك العابد فقد كانت أيضاً من المفكِّرات السوريات اللواتي وقفن في وجه الاحتلال الفرنسي من خلال المظاهرات التي كانت تشارك فيها، ومن خلال مقالاتها اللاهبة التي كانت تهاجم بها الاحتلال الفرنسي لذلك لم تدم مجلتها طويلاً إذ سرعان ما تمِّ إصدار قرار بإغلاق مجلتها والحكم عليها بالنفي خارج البلاد وكان ذلك في أقل من سنة، ولم تسلم مجلة المرأة التي أصدرتها نديمة المنقاري من استبداد الحكم الفرنسي والذي قضى بإغلاقها بعد سنة من ظهورها بحجة أنَّها تثير الفتن بمقالاتها المناهضة للاحتلال الفرنسي.
لقد كانت قضايا المرأة مسيطرة على الموضوعات التي تطرحها الصحافة النسائية في سوريا والدليل على ذلك أسماء الصحف التي كانت تشير إلى المرأة وتؤكد وجودها، فقد كانت تلك الصحف تدعو المرأة السورية إلى التحرر وتجاوز الأنماط الاجتماعية الجامدة إلى مجتمع تسود فيه الحرية والديمقراطية والمساواة، وقد جاء في مقدمة مجلة المرأة التي أصدرتها نديمة المنقاري قولها: "أمَّا مجهودي فتضحية ثمرتها المرجوة نشر الثقافة، وأمَّا بغيتي، فركون إلى الحياة الحرة بالعمل على رفع مستوى المرأة".
إنَّ قضية المرأة في ذلك الوقت كانت من القضايا الإشكالية المهمة التي كانت تجذب القراء لما كان يدور حولها من آراء متضاربة ومواقف متصادمة بعضها يشجع المرأة وبعضها الآخر يثبط من عزيمتها. وقد ضارعت مرحلة نشوء الصحافة النسائية حركات تحرر المرأة التي كانت قد نشطت قبل ذلك في أنحاء العالم، إنَّ
صوت المرأة السورية بات مسموعاً آنذاك وإن خجولاً وخافتاً إلا أنَّه أثبت حضوره في أصعب الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية جاعلاً من الصحف منبراً للتعبير عن آراء المرأة ومكاناً ملائماً لإثبات وجودها ممَّا شكَّل أساساً متيمناً لكل ما أنجزته المرأة السورية في مجال الصحافة وغيره من المجالات.