إنه لأمر غريب ذلك التي يتصل بقصف المدن، ومحو الطائرات المدنية، وممارسة التعذيب والإعدامات الميدانية، والعودة المروعة لظهور الحرب الكيماوية في العصر الحديث، والاغتيالات الوحشية وغير المعهودة التي ترعاها دولة على الأراضي البريطانية، كل ذلك يجعل من كتاب إليوت هيجينز: (نحن بيلينغكات) أكثر من مجرد كتاب رفيع المستوى.
بيد أن هيجينز، ذلك الناشط المعاصر الزئبقي غريب الأطوار والمهووس بالتحقيق في قضايا حقوق الإنسان، إلى جانب عمله في مجال الصحافة، يعتبر شخصية متفائلة بصورة أساسية، ذلك المحارب من وراء الشاشة الذي تمكن خلال فترة وجيزة من الخروج من مستنقع الغموض ليكشف بأن المعلومات المجانية المتاحة للجميع والمتوفرة على الشابكة، ليست مجرد أداة فقط، بما أن بوسعها في بعض الأحيان أن تدل على من يتلاعب بالانتخابات، مع تحسس نظريات المؤامرة وذلك لصالح من يقومون بالتشويش عبر نشر المعلومات المضللة والمتاجرة بها، بل يعرض لنا هيجينز من خلال هذه الرواية القصيرة واللافتة للأنظار، كيف يمكن لذلك البحر المضطرب والمعقد والواسع من المعلومات التي تنتشر على الشابكة، أن يقدم تبريراً لأي رأي يطرح دون أن يتبنى أي رأي منها.
إذ يمكن لهذا العالم مترامي الأطراف أن يتحول بشكل عملي إلى مركز استقطاب، دون الحاجة للجوء إلى حيل التجسس السرية، وذلك للحصول على الحقائق ذاتها التي تطعن بالأكاذيب وتحقر من شأن المحرضين، حتى لو كان هؤلاء يوجدون في الكرملين.
وكما يوحي عنوان هذا الكتاب، يعتقد هيجينز أنه ليس الوحيد في هذا المضمار، كما أن بيلينغكات ليست وكالة التحقيق الوحيدة التي تأسست بناء على الطرق والأساليب التي وضعها هيجينز، بل إن الرغبة في استعادة الإنترنت والدفاع عن الحقيقة بحد ذاتها بات أمراً شائعاً وقابلاً للتحقيق، والحمد لله على هذه النعمة.
مدون بدوام جزئي
كانت تلك مجرد قصة، خلال فترة من الزمان، حيث دفعت هيجينز عبر عمله كمدون بدوام جزئي في ليستر ضمن وظيفة جامدة ومحدودة إلى تعرية مجرمي الحرب في سوريا بالإضافة إلى فرق الموت الروسية وكشفها بالأسماء وأرقام جوازات السفر، وكل ذلك لم يستغرق منه سوى فترة تقل عن عشر سنوات.
إذ عندما أخذ هيجينز يكتب في روايته الأنيقة المختصرة، كنا ما نزال في عام 2011، ولكن، ولأنه افتتن بالربيع العربي الذي بدأت ملامحه تتكشف حينها، لذا فقد بدأ يشارك في منتديات على الشابكة وينشر دقائق وتفاصيل مهمة لاحظ وجودها في الصور والتغريدات التي انتشرت حول تلك النزاعات، مثل حطام الأبنية المحترقة في خلفية إحدى الصور، والذي يشير إلى هجوم لم يتم توثيقه، أو نوع جديد من البنادق أو الصواريخ ما يعني وصول شحنة أسلحة إلى إحدى جماعات المتمردين أو غيرها.
وبعض من يقومون بالتقاط تلك الصور ونشر تلك التغريدات كانوا مراسلين أجانب تقليديين (بينهم مراسلو صحيفة تيليغراف أيضاً)، حيث اعتمد هؤلاء على الشابكة: "لتفريغ محتويات دفاترهم" حسب وصف هيجينز، والتي تضم موادّ لا يمكن أن تدرج في التقرير النهائي.
إلا أن غيرهم كانوا من المقاتلين أنفسهم، حيث قام هؤلاء باستخدام هواتفهم الذكية بكل سرور والتي انتشرت بشكل كبير حينها، وذلك حتى يتباهوا بالانتصارات التي حققوها، أو ليسخروا من أعدائهم أو يرهبوهم.
إلا أن تلك الصور وغيرها الكثير من مقاطع الفيديو تشتمل على أمرين قام هيجينز بدراستهما، أولهما والذي يعتبر محور الرواية التي قام عليها هذا الكتاب، يدور حول عناصر مهمة تساعد على التحقق من صحة المزاعم وعمليات التستر وجرائم الحرب أو دحضها، حتى قبل أن تضع الحرب أوزارها، وحتى لو كان من يحقق في الأمر على بعد مئات الكيلومترات من موقع الأحداث.
أما الأمر الثاني فيتصل بنبذ هؤلاء الذين يعتقدون أنهم مجهولون، ولهذا فهم على استعداد للكذب حتى لو قاموا هم بأنفسهم بنشر صور تكشف عن هويتهم كما تكشف الحقيقة الكامنة وراءها، وذلك بعد بذل شيء من الجهد للتأكد من ذلك.
تحقيقات استثنائية
ما سيستأثر باهتمام الناس في تلك الصفحات هو تلك التحقيقات المركزة والاستثنائية التي أجرتها بيلينغكات وألحقت بها أدلة توثيقية، أهمها تلك التي تدور حول الهجمات بالغاز السام في سوريا، وإسقاط الطائرة الأوكرانية MH17 وعلى متنها 298 راكباً على يد انفصاليين يستخدمون صواريخ أمدتهم بها روسيا، إلى جانب محاولة اغتيال سيرغي سكريبال.
إن كل فصل من فصول ذلك الكتاب يتم سرده وكأنه الفصل الختامي في تحقيقات شارلوك هولمز حول الجناة، حيث يشرح رجل الشرطة بشكل علمي وبطريقة غاية في الوضوح النتائج التي خلص لها والتي لا مفر من الوصول إليها.
وهكذا سنكتشف كيف يمكن التحقق من أصل ومرجع الصور عبر غوغل مابس/ خرائط غوغل، إلى جانب التحقق من زواياها المظلمة لتحديد التاريخ والوقت والمكان، وكيف يتم تصيد قواعد البيانات ومواقع التواصل الاجتماعي المتاحة للعامة لربط كل الأدلة والقرائن.
ففي لحظة مدهشة، تم التأكد من هوية أحد سجناء سالزبورغ من خلال صورته، والتي وضعت في إطار مزخرف حتى يراها الجميع وذلك على جدار الأبطال في أكاديمية القيادة العسكرية في الشرق الأقصى، ذلك الجدار الذي قام أحد الزوار في عام 2017 بنشر صورة له على الشابكة.
كما أن بيلينغكات كشفت جاسوساً آخر عبر قائمة تسجيل مسربة لإحدى المركبات، وهذه القائمة تحتوي أيضاً على الأعمار والأسماء الكاملة وأرقام الهواتف النقالة وجوازات السفر، حيث تبين بأن الجاسوس قام بتسجيل سيارته لدى مقر إدارة الحرب الإلكترونية بروسيا.
وعندما قام فريق هيجينز بالبحث في تلك القائمة للتعرف على شخصيات أخرى قامت بالعملية ذاتها، اكتشف فريق البحث وجود 305 شخصيات أخرى، وذلك ضمن إحدى أكبر العمليات التي تم من خلالها الكشف عن تلك الشخصيات الخفية، وكل ذلك تم عبر البحث على الشابكة نفسها.
والحق يقال إن بيلينغكات تقوم بعملها بطريقة احترافية للغاية لدرجة أنها تجد نفسها وهي تدفع المال للموظفين البيروقراطيين في روسيا لقاء الحصول على ملفات شخصية حول بعض المشتبه بهم، أي أنها تتبع الأساليب السرية ذاتها التي سبق لهيجينز أن استهزأ بها. لكن في نهاية المطاف، يعزينا هذا الكتاب ويطمئن القراء إلى أنه في عالم يتمتع فيه كل شخص برأي وتكاد الموضوعية تنقرض فيه، أصبحت الأدوات التي تساعد على التحقق والتأكد من صحة أي معلومة متاحة أكثر من أي وقت مضى.
إلا أن البعض قد يغلق هذا الكتاب والخوف يساوره ليس فقط من أنه لم يعد بالإمكان معرفة أي شيء على وجه اليقين، بل أيضاً لأننا مع إغراق أنفسنا في عالم هواتفنا الذكية وكاميرات المراقبة، وزيادة عدد الأقمار الصناعية التي تراقب كل حركاتنا وسكناتنا، لم يعد هناك مجال لإخفاء أي شيء، إذن أهلاً بكم في الكوكب الذي لا ينجو أحد فيه من المراقبة.
المصدر: تيليغراف