بدأت تزداد المخاوف التقسيمية في المنطقة بعد هبوب رياح التقاطعات الدولية والإقليمية، عقب حرب غزة وتوسّع دوائر الاستهدافات الإسرائيلية، التي طالت كل المنطقة ودولها في لبنان وسوريا والعراق وإيران.
وفي خضم ذلك، بدأت واشنطن بالتخطيط لاحتلال أجزاء من الأراضي السورية بعد نجاحها في العراق، فكان خيارها الاستراتيجي المناطق الغنية بالنفط كدير الزور وكل شمال شرقي البلاد، مستفيدة من موقف النظام السوري ورئيسه المتماهي مع الدور الإيراني، كخط دفاعي متقدّم بوجه أميركا، كما في كل السرديات التي يسوقها النظام منذ خمسين عاماً.
وهذا أعطى الولايات المتحدة الفرصة لتنفيذ خطتها في سوريا، وهي تقترب كلما استحال الولوج إلى حل سياسي على قاعدته الأممية.
وفي ظل الممانعة الروسية واستظلال النظام بالقوات الإيرانية والفصائل المسلحة المتكاملة مع الفصائل العراقية، فهي حتماً تهيّئ وتقترب وتحضّر الأجواء لإطلاق ما يُسمَّى "كردستان السورية" في مناطق شمال شرقي سوريا ودير الزور، كونها منطقة مكتفية ذاتياً واقتصادياً. وفي حال إنشائها، فإنها لن تخالف سياسة الولايات المتحدة بأي شيء، بمعنى آخر قد تكون دولة وظيفية على شاكلة إسرائيل، وهذا هو الخوف الأكبر.
في دير الزور اليوم، التي يشقها الفرات إلى قسمين، هناك وجود مكثف للحرس الثوري الإيراني في مناطق سيطرة النظام غرب نهر الفرات.
تقسيم متدرج
إذن، تصاعد تدريجي بوتيرة العنف في سوريا، عبر الجماعات المتطرفة والتنظيمات الإرهابية التي ظهرت وترعرت في حواشي النظام وعلى ضفافه، حتى تمكّنت من السيطرة على معظم المناطق الغنية بالنفط والثروات الباطنية. ومن دون أن نغفل بأن هناك نظرية منطقية تقول إن التنظيمات الإرهابية المتطرفة فعلت كل ما فعلته في سوريا والعراق بتوجيه شبه مباشر من الولايات المتحدة، بما يتماشى مع مصالحها.
كما كان الحال مع النظام، فواشنطن كانت راضية عن هذا التمدد لتوفر لها الحجة بإطلاق العمليات العسكرية والدخول العسكري في الأراضي السورية وتسويغ مشاريع تقسيمية تُربك الروسي وتُخرج الإيراني، وتُبقي على سوريا دولة ضعيفة مفككة ومنهكة القوى والنظام والمؤسسات. وهذا ما عمل وساعد عليه النظام في سوريا منذ بدء الأحداث عام 2011.
في دير الزور اليوم، التي يشقها الفرات إلى قسمين، هناك وجود مكثف للحرس الثوري الإيراني في مناطق سيطرة النظام غربي نهر الفرات، ووجود للجيش الروسي أيضاً. ثم هناك انتشار للجيش الأميركي، من أقوى جيوش العالم. فيمكن اعتبار أن الأمر في سوريا بدأ في دير الزور وسينتهي فيها.
في بداية شهر آب من هذا العام، قامت جماعة مسلحة بشن هجوم تحت اسم "جيش العشائر"، وبشكل مفاجئ، على مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية (قسد). وأصدرت الإدارة الذاتية بياناً اتهمت فيه حكومة النظام السوري بتنظيم هذا الهجوم، ولم ينف النظام صلته بالهجوم، بل أصدر هو الآخر بياناً اتهم فيه قوات قسد بالعمالة للولايات المتحدة. ورغم أن هذه الانتفاضة العشائرية كانت بسبب معاناتهم من سياسات قسد، وممانعتهم احتلال حزب العمال الكردستاني لمناطقهم العربية، فإن هذه الانتفاضة دُعمت مباشرة من دمشق، وتم تمويلها من إيران التي لها مصلحة في مثل هذه الاضطرابات بمناطق ذات نفوذ أميركي.
ما حصل في دير الزور، ووجود أصابع إيرانية مباشرة في القضية، دفع الولايات المتحدة للتدخل الفوري وتنفيذ ضربات جوية ضد المهاجمين.
العشائر العربية خط الدفاع
وقد هدف النظام من دعم العشائر العربية في مواجهة قسد إلى استعادة بعض حقول النفط التي تسيطر عليها. ففي بداية النزاع، استطاع مسلحو العشائر السيطرة على بعض البلدات، لكن القوات الأميركية أوقفت زحف العشائر. حيث سارعت روسيا مباشرة لعقد وساطة بين الطرفين ومحاولة إيجاد سبل مصالحة لوقف الهجمات المتبادلة، لكن جهود المصالحة الروسية يبدو أنها لا جدوى لها على المدى المتوسط. فالتركيز الروسي الآن على أوكرانيا وقدرة كييف على التوسع داخل الأراضي الروسية. ويرغب بوتين بشدة حالياً في إغلاق أي ملف يتعلق بسوريا أو بالنزاع الدائر في غزة ولبنان، خشية أن يؤثر ذلك على النظام في دمشق. ولذلك، بعد الاغتيالات الإسرائيلية لقادة عسكريين من حزب الله وإيران، سارعت موسكو لإرسال وفد عالي المستوى إلى طهران لتحذيرها من مخاطر الانزلاق إلى حرب كبرى في المنطقة، كما تلقت قيادة الحزب تحذيرات بهذا الشأن. ولذلك تأخر الرد بعد تأكيد إيران والحزب عزمهما على القيام برد مؤلم على الاغتيالات.
إذن، ما حصل في دير الزور، ووجود أصابع إيرانية مباشرة في القضية، دفع الولايات المتحدة للتدخل الفوري وتنفيذ ضربات جوية ضد المهاجمين. ففي حال استمرت الهجمات، فإن واشنطن قد تصنّف حكومة النظام السوري والقبائل العربية التي تواجه قسد كتنظيمات إرهابية، وذلك لأنها مرتبطة بإيران، كما هي حال حركة حماس وحزب الله. وبصورة أو بأخرى، لا يمكن إلا أن نربط أحداث دير الزور الأخيرة بالحرب الإسرائيلية على غزة.
أما في حال بقيت الأوضاع كما هي عليه الآن، فإن التصعيد يتجه نحو التزايد في وتيرة الصراعات الطائفية والعرقية. ومن الممكن أن تمتد النيران إلى خارج حدود فلسطين، مما يؤدي إلى نشر حرب إقليمية تشعل المنطقة كلها، وتساعد إسرائيل على احتلال مزيد من الأراضي وتوسيع نطاق المستوطنات. وبهذه الحال، تتحول المنطقة كلها إلى حال دير الزور وما تشهده من جيوش عدة وفوضى ومشكلات لا نهاية لها.
لكن هناك من يعوِّل على مشروع مواصلة أنقرة خطواتها التطبيعية للعلاقات مع النظام السوري. لأنه في حال كان هناك تعاون وتوافق بين الحكومتين، فإنه، وبحسب ما تفيد به مصادر دبلوماسية، قد يسفر عن نوع من الاستقرار المؤقت في سوريا عموماً وفي دير الزور على وجه الخصوص. لتبقى مندرجات الاتفاقيات المنعقدة تحت الطاولة بين طهران وواشنطن، التي تجمع فيها إيران كل أوراقها ومحتوياتها تحت طاولة التفاوض، بانتظار وصول المرشحة الديمقراطية إلى البيت الأبيض كامالا هاريس، بإشراف الرئيس السابق باراك أوباما، المعجب والمتأثر بسياسة النظام الإيراني، والذي وثق وعقد أكبر اتفاق نووي مع الغرب وواشنطن. وهذا يتطلب النظر إلى وقائع الصراع في غزة وجنوبي لبنان، واستحداث التهجير لأهل الضفة الغربية بعد غزة، وبالطبع انتظار نتائج الانتخابات الرئاسية في أميركا.