المحامون السوريون ونقابتهم العتيدة

2024.09.25 | 06:24 دمشق

آخر تحديث: 25.09.2024 | 10:53 دمشق

4566666666
+A
حجم الخط
-A

بتاريخ 1 آب الماضي، أصدر نقيب المحامين في سوريا، المحامي الفراس فارس، تعميمًا يعلن فيه مواعيد فتح باب الترشح لانتخابات مجالس فروع نقابة المحامين في المحافظات وانتخابات العضوية المتممة للمؤتمر العام للنقابة المركزية.

بدأت طلبات الترشح في الأول من أيلول الجاري وانتهت في العاشر منه، وبعد انتخاب مجالس الفروع تُجرى انتخابات مجلس النقابة المركزية، لأنّ أعضاء المجالس في المحافظات والأعضاء المتممين هم من يمثلون الهيئة العامة للنقابة المركزية إضافةً إلى أعضاء المجلس السابقين، وينتخبون من بينهم نقيبًا للمحامين وأمينًا لسر مجلس النقابة وخازنًا لها وأعضاء النقابة المركزية. غالبًا ما كان محامو دمشق وحلب يحصلون على أعلى الأصوات باعتبار أن عددهم يفوق عدد بقية الفروع، وغالبًا ما كان النقيب يأتي من بين ظهرانيهم.

يذكر التاريخ أنّ أوّل نقيب للمحامين في دمشق هو الزعيم فارس بيك الخوري، وهو غنيّ عن التعريف، وقد تعاقب على تولي منصب النقيب بعده شخصيات رفيعة المستوى، فكان منهم: محمد سعيد المحاسني، وبهجت الشهابي، وفائز الخوري، وأحمد فؤاد القضماني، ومظهر القوتلي، وسعيد الغزّي، وسامي الميداني. ومعظمهم كانوا رجالات دولة تولوا مناصب رفيعة، فكان منهم القضاة والوزراء والسفراء ورؤساء الحكومات والمجالس النيابية، مثل سعيد الغزّي ومأمون الكزبري اللذين رأسَا الحكومة والبرلمان، وأسعد المحاسني الذي كان سفير سوريا لدى باريس، وأحمد فؤاد القضماني الذي كان صاحب فكرة عقد المؤتمر الدولي للمحامين العرب والذي شغل منصب رئيسه الفخري مدى الحياة، وإبراهيم الحمزاوي الذي كان وزيرًا للعدل، وسامي الميداني الذي كان يجيد المرافعة بالعربية والإنكليزية والفرنسية والألمانية والتركية، وكان عميد معهد الحقوق العربي بدمشق ورئيسًا للجامعة السورية في عام 1953، وغيرهم كثير.

كان لنقابات المحامين في المدن السورية، قبل توحيدها في نقابة مركزية واحدة، دور وطني وسياسي ملحوظ، فالنقباء الأوائل كانوا من كبار رجالات الدولة كما مرّ معنا، واستمر تأثير النقابات عامةً ونقابة المحامين خاصةً ودورها المهم في الشأن العام حتى بعد انقلاب البعث وخلال السنوات العشر الأولى من حكم حافظ الأسد.

سيطر نظام الأسد على النقابات من خلال إصدار قوانين جديدة لتنظيم المهن النقابية، وتم بموجب هذه القوانين فرض سيطرة كاملة لحزب البعث العربي الاشتراكي على النقابات.

ففي مواجهة القمع في سوريا نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات، أصدرت نقابات المحامين والمهندسين والأطباء والمعلمين بيانًا سياسيًا طالبت فيه السلطات السورية بتنفيذ ستّ خطوات هي:
1- تأمين الحرية والديمقراطية للمواطنين كلهم ومنحهم الحق بالتعبير عن آرائهم ومعتقداتهم السياسية.
2- إلغاء حالة الطوارئ في سوريا وقصرها على مناطق التماس مع "إسرائيل".
3- العمل على سحب السلاح الذي تم توزيعه على بعض الفئات والهيئات.
4- إزالة الأسباب التي أدت وتؤدي إلى بروز الممارسات الطائفية من أي جهة كانت ومهما كان مصدرها.
5- تقليص أجهزة القمع وصلاحياتها وقصر الملاحقات على رجال الضابطة العدلية ضمن حدود الدستور والقانون.
6- إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين والموقوفين بسبب معتقداتهم السياسية والفكرية والذين أوقفوا من دون مذكرات قضائية.

فكان ردّ حافظ الأسد إصدار مرسوم تشريعي بتاريخ 7 نيسان 1980، في الذكرى 33 لنشوء حزب البعث العربي الاشتراكي، خوّل بموجبه مجلس الوزراء سلطة حلّ مجالس النقابات المهنية في سوريا، وصدر قرار مجلس الوزراء بعد ثلاثة أيام من ذلك، أي في 10 نيسان، فطال الحلّ مجالس النقابات المهنية جميعها، ثم تلا ذلك إنشاء مجالس جديدة من النقابيين البعثيين والمرتبطين بالأجهزة الأمنية.

سيطر نظام الأسد على النقابات من خلال إصدار قوانين جديدة لتنظيم المهن النقابية، وتم بموجب هذه القوانين فرض سيطرة كاملة لحزب البعث العربي الاشتراكي على النقابات. فكان قانون تنظيم مهنة المحاماة رقم 39 الصادر بتاريخ 21/8/1981، والقانون رقم 30 الصادر بتاريخ 11/7/2010، مثالًا على ذلك. ونورد بعض المواد منهما التي تبيّن ذلك:
مادة 3 من القانون 39: (نقابة المحامين تنظيم مهني اجتماعي مؤمن بأهداف الأمة العربية في الوحدة والحرية والاشتراكية وملتزم بالعمل على تحقيقها وفق مبادئ ومقررات حزب البعث العربي الاشتراكي وتوجيهاته).
ويقابلها المادة 3 من القانون 30: (نقابة المحامين تنظيم مهني اجتماعي علمي مؤسس وفق أحكام الدستور).
مادة 4: (تعمل نقابة المحامين بالتعاون مع الجهات الرسمية والشعبية في القطر العربي السوري، وبالتنسيق مع المكتب المختص في القيادة القطرية لحزب البعث العربي الاشتراكي، على تحقيق الأهداف،..)، وتطابقها المادة 4 من القانون رقم 30.

أرهب النظام النقابيين كما أرهب كل الشعب السوري، ففرض عليهم قوائم مطبوعة لانتخاب ممثليهم في مجالس النقابات الفرعية والمركزية.

وهكذا بدأنا نرى نقباء من أمثال محمد نذير قدورة، الذي كان أول من افتتح عهد التبعية النقابية لحزب البعث والأجهزة الأمنية، وقد واظب على شغل المنصب من عام 1982 وحتى عام 1993، ثم توالى النقباء البعثيون حتى يومنا هذا. حرف النظام النقابات عن مساراتها الصحيحة، فبدلًا من أن تكون ممثلة لمصالح أعضائها، أصبحت جهازًا رديفًا لحزب البعث، مهمتها الأولى تثبيت دعائم النظام الديكتاتوري. أرهب النظام النقابيين كما أرهب كل الشعب السوري، ففرض عليهم قوائم مطبوعة لانتخاب ممثليهم في مجالس النقابات الفرعية والمركزية، وتضم هذه القوائم من يختارهم حزب البعث من أعضائه النقابيين، ليوصلهم إلى المناصب رغماً عن إرادة زملائهم. يجري حزب البعث اختيارًا داخليًا للنقابيين من بين أعضائه في عملية سخيفة تسمى استئناسًا حزبيًا، حيث يتقدم النقابيون البعثيون برغبتهم بالترشح، فتختار منهم القيادة القطرية عددًا محددًا وتطلب من البقية الانسحاب، وطبعًا، ويلٌ لمن لا ينسحب.

تدخل القائمة الحزبية المطبوعة الانتخابات النقابية بصفر أصواتٍ يعادل عدد النقابيين البعثيين المسجلين، فإن كانوا خمسمئة أو ألفًا أو ألفين، فهذا الرقم مضمون لهم، باعتبار زملائهم البعثيين مجبرين على انتخاب قائمتهم كاملة، وهي تأتيهم مطبوعة، في مخالفة لقوانين التنظيمات النقابية ذاتها. بينما يدخل المستقلون الانتخابات وصفر أصواتهم الانتخابية صفرٌ لا غير. هكذا نرى الفارق بين أصوات أدنى الناجحين البعثيين وأعلى الناجحين المستقلين هائلًا، والسبب هو أنّ أصوات البعثيين تكون مجمعة للمترشحين البعثيين ومتفرقة على المستقلين، هذا إن نالوا منها شيئًا.

قال المتنبي يومًا: "ومن نَكَدِ الدُنيا على الحُرِّ أَن يَرَى ..... عَدُوّاً لهُ ما من صَداقتِهِ بُدُّ"، ومن نكد الدنيا على المحامين أن نرى ما نراه اليوم في انتخاباتهم وعملهم وحياتهم. فهل تعود نقابتنا لسابق عهدها كما كانت أيام الكبار العظماء مثل الخوري والكزبري والقوتلي والغزّي، أم تبقى على حالها الراهن أم تنحدر أكثر نحو الهاوية؟ هذا سؤالٌ جوابه هو جواب سوريا كلها، لأنّه بخلاصها من الاستبداد تبدأ مسيرة الحياة الحقيقية تدبّ في كل العروق، ومنها النقابات.