icon
التغطية الحية

المحاكاة في الفن التشكيلي.. هل يجب على الفنان نسخ الواقع؟

2022.08.19 | 19:12 دمشق

رسم
+A
حجم الخط
-A

من أكثر النظريات الجمالية شيوعا بين المهتمين بالفنون ومتذوقيها، وبناء عليها يتخذون موقفا جماليا من العمل الفني ويقيمون مدى جمالية هذا العمل أو ذاك، هي "نظرية المحاكاة". فنرى من يؤمنون بهذه النظرية ينظرون إلى العمل الفني من زاوية مدى مطابقته للواقع أو للطبيعة، وكلما كان أكثر مطابقة ومشابهة كلما كان أكثر جاذبية وأكثر جمالا وكمالا من وجهة نظرهم، وهذا الأمر بالطبع له جذوره وللنظرية منظريها.

كانت هذه النظرية وما زالت محط جدل منذ ما يقارب قرنا من الزمان، أي منذ بداية ظهور المدارس التشكيلية الحديثة التي بدأت بالتمرد على قواعد الرسم الأكاديمي والمدرسة الكلاسيكية.

فبعد أن ينتج الفنان فنه، كيف لنا أن نقيم عمله إن كان جميلا أم لا؟ وما هو الفن الجميل؟ ولماذا كانت الإجابة على هذا السؤال موضع خلاف وجدال على مدى عشرات السنين؟

كلما حاول فلاسفة الفن والنقاد وضع معايير جمالية، ظهرت مدارس فنية جديدة تحمل أبعادا جمالية مبتكرة فتثير الجدل مجددا. ويمكننا القول إن هذا أمر بديهي ولا بأس به، ذلك أن الجمال عموما شيء نسبي يختلف من بيئة لأخرى ومن ثقافة إلى أخرى ومن حضارة إلى أخرى، بل حتى من جيل لآخر. فما نراه اليوم أنه غاية في الجمال والتناسق سيكون ربما بلا أي قيمة جمالية بعد عشر سنوات كما هو الحال في موضة الملابس على سبيل المثال.

ومن المؤكد أن مفهوم الجمال في الفن التشكيلي والفن عموما أوسع بكثير من المثال السابق، وللإجابة على السؤال المطروح (ما هو الفن الجميل؟) لا تكفي هذه المساحة ولا أكثر منها بكثير للإجابة عنه، إذ لا توجد إجابة متفق عليها حتى الآن، وسنستعرض هنا بشكل مختصر أبسط وأقدم نظرية جمالية وأوسعها انتشارا ألا وهي نظرية المحاكاة أو المماثَلة أو المشابهة مع الواقع.

نظرية المحاكاة في الفن

تقول هذه النظرية إن الفن الجميل يعرف بأنه النقل الحرفي والأمين لموضوعات التجربة المراد تمثيلها، وما يكشف عنه العمل الفني يشبه بدقة ذلك الأنموذج الموجود خارج العمل الفني، فالعمل الفني هنا يحاكي الموضوع.

فمثلا الصورة الشخصية "تحاكي" الشخص الذي تصوره، فأي شخص على علاقة شخصية معه سيتعرف إليه وسيعرفه من خلال مشاهدته للعمل، وهكذا... وعلى ذلك فإن أهم شيء في العمل الفني هو المشابهة والمماثلة لما نعرفه في الواقع بحسب هذه النظرية.

وكما أسلفنا، فإن هذه النظرية تعدّ الأقدم في فلسفة الجمال الفني، وقد أوردها الفيلسوف اليوناني أفلاطون في محاورة الجمهورية حيث قال: "إن الشاعر أو المصور إلى جانب إنتاجه لكل أنواع الأشياء الصناعية يستطيع أن يخلق كل النباتات والحيوانات ونفسه أيضا، والأرض والسماء والآلهة والأجرام السماوية وكل ما في جوف الأرض في العالم الأدنى".

هدف الفنان في الحقيقة هو محاولة لاستكشاف جوهر الأشياء ومحاولة لفت الانتباه إلى القيم الجمالية الكامنة في الموجودات من حوله

وهذا ليوناردو دافنشي يصف الرسم بأنه "المحاكي الوحيد لكل الأعمال المرئية في الطبيعة". ويقول أيضا: "إن أعظم تصوير هو الأقرب شبها إلى الشيء المصور".

وهكذا نرى أن نظرية المحاكاة البسيطة تستخدم في الحكم على قيمة الفن الجمالية في كثير من المواضع والحالات، والواقع أن انتشار هذه النظرية في عصرنا الحالي ما هي إلا دليل على تأثيرها التاريخي الدائم، ولسنا بحاجة إلى تأكيد انتشار أفكار هذه النظرية بين عامة الناس، فكثيرا ما نسمع أحدا يبدي إعجابه بعمل فني أو لوحة ما بقوله: "يا إلهي، كأنها حقيقية"، وإن ما يسمى بالفن الحديث كثيرا ما يهاجَم لأنه يصور الموضوعات أو الأشخاص بطريقة غير "مشابهة" لما ألفناه في الواقع أو لأنه لا يكشف عن أي موضوع يمكّننا من التعرف إليه على الإطلاق، أما التصوير الذي يلقى إعجابا شعبيا فهو مماثل لما أنجزه فنانو عصر النهضة وما بعده حيث أظهروا براعة مدهشة بنقل أدق التفاصيل من الواقع أو الموضوع المراد تصويره، وقد استحدثت على مر السنين أساليب تزيد من قوة التشابه مع الواقع.

 

محاكاة
لوحة للفنان الإيطالي فيتوريو ريجيانيني من القرن التاسع عشر

 

وهنا لابد لنا من التساؤل: هل هذه النظرية صحيحة تماما من الناحية الجمالية؟ هل مهمة الفنان الوحيدة هي محاولة نسخ الواقع وكأنه يدير مرآة في جميع الاتجاهات؟ وما قيمة العمل الفني إذا كان مجرد نسخة عن شيء موجود أمامنا في الطبيعة بشكل دائم؟

لا أظن أن هناك أحد من الفنانين يتبنى هذا الاعتقاد، حتى وإن قرر تصوير أو نقل موضوع من الطبيعة فلا يكون هدفه هو فقط المشابهة والمماثلة، ولو كان هذا هدفه فقط لكانت مهمته أسهل بكثير مما هي عليه بالفعل، فكثيرا ما يعدّل الفنان مواضع العناصر المراد تصويرها لأغراضه الخلاقة فتراه يعيد ترتيب الكتل أو يحذف عنصرا هنا أو يضيف عنصرا هناك.

وعلى ذلك فإننا لا نكون منصفين إذا امتدحنا الفنان بسبب قدرته على مماثلة الواقع فحسب، فعلى الرغم من أن المواضيع التي يصورها تشبه نماذجها ولكنها أكثر من ذلك، إذ أن الفنان قد يضاعف من تأثير اللون أو الملمس بحيث تكون شديدة الحيوية جذابة للعين، وعن طريق فنه يستطيع أن يضاعف من الأهمية البصرية للأشياء التي تكون غالبا اعتيادية، فنراها على نحو لا يتحقق في الإدراك العادي. 

إذن، فالموضوعات المراد تصويرها ليست هي جوهر العمل الفني من الناحية الجمالية وإنما تكمن القيمة الفنية الجمالية للموضوعات المصورة بحسب الطريقة التي تربط فيها الموضوعات المصورة فيما بينها، فكلما كان الربط بين العناصر مدروسا كلما أعطى للوحة قيما شكلية وجمالية أعلى.

 

فنون
لوحة بعنوان سلة فواكه للفنان الهولندي بالتـاسـار فانـدر آسـت

 

وهنا لنا أن نتساءل أيضا: أليس من السذاجة بحق أن يكون المعيار الجمالي الوحيد للعمل الفني هو مدى مطابقته للواقع؟

أليست لوحات فان غوخ مثلا ذات قيمة جمالية وفنية عظيمة بإجماع الجمهور قبل النقاد وفلاسفة الفن بالرغم من عدم مشابهتها للواقع بشكل واضح وصريح؟ وكذلك الأمر بالنسبة لأعمال سيزان وغوغان وغيرهم الكثير. وثمة الكثير من الأمثلة التي لا يسعنا حصرها هنا. مع الأخذ بعين الاعتبار أن الفن التشكيلي المعاصر ذهبت معظم مدارسه إلى الابتعاد عن تشبيه الواقع بل حتى إلى رفض مماثلة الواقع بالمطلق!

وهنا، لا بد من الاعتراف بأننا لا يمكن أن نعتمد على نظرية المحاكاة وحدها للحكم ولتقييم الأعمال الفنية من الناحية الجمالية، وإذ نفعل ذلك فعندها سوف يسقط كم هائل جدا من الأعمال الفنية العظيمة التي أنتجتها البشرية على مر تاريخها، ففي كل الأزمان والحضارات لم يكن هم الفنان هو مشابهة الواقع إلى حد المطابقة باستثناء حضارة الإغريق ومن بعدهم الرومان ومن ثم عصر النهضة في أوروبا حتى بداية القرن العشرين تقريبا.

فهدف الفنان في الحقيقة هو محاولة لاستكشاف جوهر الأشياء ومحاولة لفت الانتباه إلى القيم الجمالية الكامنة في الموجودات من حوله، فمثلا حين يرسم أحد الفنانين شجرة، حتى إن كانت مطابقة للواقع، فهو يريد أن يوجه انتباهنا إلى قيمة الحياة والنماء، وهكذا.

وختاما نقول إن معظم النقاد وفلاسفة الفن لا يتبنون نظرية المحاكاة للحكم على الأعمال الفنية من الناحية الجمالية وذلك لقصورها الذاتي من حيث المبدأ، وإنما يحيلون الأمر إلى الكثير من المعايير الجمالية الأخرى.

ومع ذلك فإن نظرية المحاكاة البسيطة لا يمكن أن تهزم بسهولة فهي ما تزال واسعة الانتشار جماهيريا وهي تظهر بوضوح في المواقف التي يشيع اتخاذها من الفن الحديث الذي ما زال عصيا على الفهم والإدراك بالنسبة لشريحة كبيرة من الناس غير المتخصصين.