يتداول كثيرون اليوم في سوريا مصطلح "الليبرالية"، ويقرنها البعض بكلمة الديمقراطية، تعبيرًا عن المضيّ بعيدًا في المفهوم وتشرّب قيمه، وينعت كثيرون أيضًا أنفسهم بالليبراليين، كجماعة سياسية، ومنهم من اتخذها كأيديولوجية. وعند تفحص بسيط وأولي لهذا المصطلح وربطه بمن يدّعون الانتساب إليه في سوريا، وخاصة منذ أواخر القرن الماضي إلى اليوم؛ تظهر المفارقات والتناقضات، فضلًا عن أنه ليس أكثر من انتماء وهمي لحالة تاريخية لم تعرفها سوريا إلا لبعض الوقت وببعض الأشكال، ويعدها كثيرون حلمًا يبحثون عنه.
ميزت الليبرالية فترة تاريخية في الغرب، لا تزال ممتدة حتى اليوم، بأشكال ورؤى متغيرة، حيث لم تقتصر على دعواها الكلاسيكية الاقتصادية على الاقتصاد الحر، التي يقصد بها عدم تدخل الدولة في الأنشطة الاقتصادية، والسماح لهذه الأنشطة بأن تضبط نفسها وحدها، بل احتضنت آراء وأفكارًا تعبّر عن مدى الفهم لمبدأي الحرية والمساواة، ثم صارت في النهاية حركة تؤيد حرية التعبير والصحافة والديانة والحقوق المدنية والديمقراطية، وكل هذا اعتمادًا على الإيمان بالنزعة الفردية المعتمدة على حرية الفكر والتسامح واحترام كرامة الإنسان، بالإضافة إلى ضمان حقه بالحياة وحرية الاعتقاد، والمساواة بين الأفراد أمام القانون؛ وناظمها الأساسي في كل ذلك هو حيادية الدولة في دورها أمام مختلف أفراد الشعب وطبقاتهم، وألا تتدخل في العلاقات الاجتماعية والاقتصادية إلا في حال ترتيب البنى التحتية اللازمة للسوق.
تعرضت الليبرالية، منذ نشأتها إلى اليوم، لتغيرات كبرى، وارتبطت مؤخرًا بقضيتي العدالة والمساواة، كما أظهرت وجوها قاسية في شكلها الجديد، وخاصة على المستوى الدولي فيما يُعرف بسحق مفهوم "الدولة القومية" أمام حركة رأس المال العابر للحدود
وبإيجاز، يمكن القول إن الليبرالية ليست عقيدة، وإنما فلسفة تدعو للتحرر من السلطة المفروضة على رأس المال أولًا، وعلى حرية وحركة البشر ثانيًا، وبالتالي فهي ترفض الخضوع للأيديولوجيات، من خلال مرونتها وقدرتها على التحول والتغير وفق الظروف التاريخية، وقد تعرضت الليبرالية، منذ نشأتها إلى اليوم، لتغيرات كبرى، وارتبطت مؤخرًا بقضيتي العدالة والمساواة، كما أظهرت وجوها قاسية في شكلها الجديد، وخاصة على المستوى الدولي فيما يُعرف بسحق مفهوم "الدولة القومية" أمام حركة رأس المال العابر للحدود، وحركته داخل البلدان نفسها.
عرفت سوريا الليبرالية بشكلها المحدود (حضور الدولة إلى جانب حرية رأس المال، والهامش الديمقراطي)، حيث كانت البرجوازية السورية الوطنية (المحلية) في طور تكوّنها، بعد فترة الانقلابات والاحتلال الأجنبي، لكن هذه الفترة لم تدم طويلًا (1954 -1958)، إذ انتهت مع قيام دولة الوحدة، التي مضت في سياسة التأميمات غير المدروسة، وألغت الحياة الحزبية السياسية وحصرتها بيد الأجهزة الأمنية والأحزاب التي تؤلفها، تلاها بعد فترة قصيرة، قبل أن يسيطر على السلطة عسكر حزب البعث بعقيدته الشعبوية ورفع شعاراته "الاشتراكية" التي في جوهرها: المساواة في الفقر، ونهب رجال السلطة لثروات البلاد، وتخزينها في أيدٍ "أمينة، وفي النهاية أخضع الحياة السياسية لنظرته (معنا أو ضدنا)، ما يعني إلغاء السياسة عمليًا من المجتمع، واقتصاديًا".
مع استلام حافظ الأسد السلطة، بانقلابه عام 1970، كثّف هذه السياسة، من خلال سيطرته على مجال الحياة السياسية (حزب البعث اسمًا وفعليًا الجيش والمخابرات)، واحتكاره للحياة الاقتصادية (الاستيراد والتصدير والبنية التحتية) والسماح بحرية نسبية لبرجوازي دمشق وحلب، تبعًا لنسبة الولاء والارتباط بالسلطة، مع السعي الجاد لخلق شرخ بينهما، من خلال نظام الأفضليات التي يغدقها على طرف دون آخر، وقد خلق ذلك حالة من الفساد والإفساد بين طبقة رجال الأعمال والتجار، ومهّد لنشوء طبقة برجوازية جديدة بمواصفات "أسدية".
مع نهاية القرن الماضي، وتحديدا بعد الاحتلال الأميركي للعراق (2003)، ظهرت دعوات من أطراف سياسية مختلفة الانتماءات (قومية ويسارية وحتى إسلامية) إلى اللبرلة والديمقراطية، كتعبير عن إفلاس أيديولوجيتها
مع بشار الأسد، لم تبقَ هناك حرية نسبية لهؤلاء، إذ قرر استكمال الهيمنة كاملًا على القطاع الاقتصادي، فكان واجهته رامي مخلوف -ابن خاله- ومجموعة من رجال الأعمال الجدد الذين يدورون في فلك بشار – رامي، ويعملون بإمرته. فظهر ما يعرَف ببرجوازية المحسوبية والخدمة التي تكدّس الأموال اعتمادًا على الولاء للسلطة التي تحتكر القرارات السياسية والاقتصادية، لا اعتمادًا على الشغل والإنتاج. وفي نفس الوقت، وكنتاج طبيعي لتلك السياسة، انكمشت البرجوازية التقليدية إلى حد كبير، وهاجر جزء من أعمدتها. ومن ناحية أخرى، ونتيجة لتلك السياسة الاقتصادية الجديدة، فقد أفقرت الطبقة الوسطى لحد التلاشي، ومن ثمّ ألغت عملية التحول الليبرالية بمعناها المعروف، من خلال ضرب ركائزها الاقتصادية والاجتماعية واحتكارها للحياة السياسية أيضًا، وفتحت الباب أمام سياسة ليبرالية من نوع جديد.
مع نهاية القرن الماضي، وتحديدًا بعد الاحتلال الأميركي للعراق (2003)، ظهرت دعوات من أطراف سياسية مختلفة الانتماءات (قومية ويسارية وحتى إسلامية) إلى اللبرلة والديمقراطية، كتعبير عن إفلاس أيديولوجيتها من جهة، ومن جهة أخرى، ملاقاة لتوقعات السياسة الأميركية التي ظهرت وقتها في السعي لنشر الديمقراطية، ولو بالقوة. وسرعان ما تراجعت هذه السياسة، تحت ضغط المصالح والمساومات بين الولايات المتحدة وشركائها في المنطقة -ما تسميه بالأنظمة "المارقة" في المنطقة- وتوصلت إلى شكل من التعاون الأمني بمواجهة العدو المشترك المتمثل بـ "الإرهاب الإسلامي" الذي نحتته فترة جورج بوش ومنظريه الأيديولوجيين (هنتنغتون وبرنارد لويس)، وبالطبع دعّمه صاحب مقولة الفسطاطين، مؤسس تنظيم القاعدة.
مع انطلاقة الثورة السورية عام 2011، كانفجار ضد أشكال مختلفة من الظلم والقهر والتهميش، التي نادت بالكرامة والحرية، وهما ما يفتقده عموم السوريين في ظل الحكم الأسدي (الأب والابن)، تحولت الديمقراطية، ومن خلفها الليبرالية أيضًا، إلى خطابٍ مُشبع بالأيديولوجيا، كحلّ سحري لمشكلات السوريين كافة في مواجهة الاستبداد الأسدي، فغدت السمة لكل خطاب سياسي بمناسبة ومن دونها، مما أفقدها ذلك كثيرًا من مصداقيتها، خاصّة أن كثيرًا من الذين تحوّلوا "عقائديًا" نحو الليبرالية والديمقراطية، كانوا حتى الأمس القريب معادين للديمقراطية، وكانوا يعدونها "خدعة برجوازية"، ومنهم ما يزال في العمق على وئام مع أيديولوجيته السابقة.