منذ أن تدخلت إيران في سوريا ووقفت إلى جانب النظام في حربه ضد السوريين تحت شعار الحفاظ على "محور المقاومة" المزعوم، دخلت معها عشرات المؤسسات والمنظمات التعليمية والدينية إلى سوريا لتعمل إلى جانب الآلة العسكرية، وذلك في محاولة لطمس معالم "الهوية السورية" والتأسيس لوجود دائم على الأراضي السورية يتخذ من "القوة الناعمة" وسيلة له، ولم تكن روسيا الحليف العسكري الآخر للنظام، والتي تدخلت عسكريا في سوريا رسمياً عام 2015 بحجة "القضاء على الإرهاب" بعيدة عن "الحرب الناعمة" كنوع من الاستعمار الجديد "الثقافي" في منافسة واضحة للمشروع الإيراني "الديني"، كلاً حسب مناطق نفوذه.
وبات هذا التنافس أو بالأحرى "الغزو الثقافي" الإيراني الروسي جلياً، خصوصاً مع تراجع نفوذ المعارضة على الأرض، وابتداع مايسمى مناطق "التسويات"، والذي بدأ يأخذ أشكالاً وطرقاً عديدة، ودخلت إلى منازل السوريين ومدارسهم وحتى أماكن عبادتهم، بتأييد مطلق من جانب حكومة النظام وبتيسير منها، فما أبرز ملامح هذا التنافس الثقافي والاجتماعي في سوريا؟ وما مدى تأثيره على المجتمع السوري؟
منذ ثمانينيات القرن الماضي، سعت إيران بكل الوسائل إلى نشر نموذج "تصدير الثورة" ونظام ولاية الفقيه، ووجدت في سوريا على وجه الخصوص ما سعت إليه
حلم إيراني قديم متجدد
منذ ثمانينيات القرن الماضي، سعت إيران بكل الوسائل إلى نشر نموذج "تصدير الثورة" ونظام ولاية الفقيه، ووجدت في سوريا على وجه الخصوص ما سعت إليه، من خلال العلاقات "المتميزة" بين نظام الأسد الأب ولاحقا الابن، حيث أنشأت المراكز الثقافية والمدارس الدينية والتي تتبنى "المنهج الشيعي"، وبعد انطلاق الثورة السورية في 2011، بدأت إيران في زيادة هذا النفوذ بشكل متسارع، ونرى ذلك في تصريحات رئيس مقر "عمار" الاستراتيجي للحروب الناعمة مهدي طائب الذي قال إن "سوريا هي المحافظة 35 لإيران، وتعد محافظة استراتيجية بالنسبة لنا".
ووجهت إيران "قوتها الناعمة" باتجاه الأرياف السورية فبدأت تركز على الجوانب الاجتماعية والخدمية مستغلة فقر وجهل سكانها وإهمال متطلباتهم، وجعلت كل هذه الأنشطة مرتبطة بالمراكز الدينية والحوزات التي أنشأتها، وهو ما يحصل فعلياً في كل من دير الزور شرقاً وحلب وحتى العاصمة دمشق ودرعا جنوباً.
مدارس وحوزات لنشر "التشيع"
في تتبعنا للأنشطة الثقافية والدينية الإيرانية داخل سوريا، وجدنا عشرات المدارس والحوزات والمراكز الثقافية، كان أبرزها "كلية المذاهب الإسلامية" في العاصمة دمشق، والتي صادق عليها وزير أوقاف النظام، حيث ستكون هذه الكلية تابعة لما يسمى "المجمع العالمي للتقريب بين المذاهب الإسلامية"، إضافة إلى افتتاح فرع الجامعة الإسلامية الحرة المعروفة باسم "آزاد" وجامعة "الفارابي" و "المصطفى"، إضافة إلى عشرات المدارس "الدينية" تقوم بتدريس المناهج على طريقة "الإمام جعفر الصادق"، كما برز دور "المركز الثقافي الإيراني" في منطقة المرجة بالعاصمة في دوره بإعطاء المنح التعليمية للشباب، وابتعاثهم إلى إيران لتعلم اللغة و "العقيدة".
في منطقة "مئذنة الشحم" في دمشق القديمة، تحدث "محمود" وهو أحد سكانها لـ "موقع تلفزيون سوريا" عن التغلغل الإيراني قائلاً "يتم توزيع السلل الغذائية والأموال بشكل مستمر في منطقة دمشق القديمة، وأصبح هناك مركز تعليمي يأمه رجال دين من إيران في منطقة القيمرية، وذلك لنشر التشيع بين سكان المنطقة".
وأضاف محمود أن "هذه المراكز لايقتصر عملها على الجانب التعليمي والديني، بل أصبحت مركز جذب لتجنيد الشباب، لضمهم ضمن الميليشيات الإيرانية، وخصوصاً المراهقين منهم، وإغرائهم بالمال والسلاح".
وفي دير الزور أيضاً، يبرز الدور الإيراني في تغيير هوية المنطقة، من خلال مجموعة من الممارسات، كان أبرزها فرض الأذان الشيعي في منطقة "القورية" بريف دير الزور، وابتداع المزارات والمراقد ونشر التشيع بالترغيب والترهيب على حد سواء.
وقال الناشط "عادل الفراتي" وهو من أبناء المدينة لموقع "تلفزيون سوريا" إنه "منذ سيطرة الميليشيات الإيرانية على دير الزور، عملت على افتتاح أكثر من 20 مكتباً في عموم المحافظة مهمتها تسجيل المتشيعين الجدد من أبناء المنطقة، وإعطاؤهم مساعدات مالية وعينية تقدر بـ200 دولار شهرياً، إضافة إلى ضمهم للمدارس الدينية التي يشرف عليها رجال دين من إيران".
ويرى الدكتور "نبيل العتوم" المتخصص بالشأن الإيراني أن " مايسمى (التمدد القبوري) هو أحد وسائل إيران لترسيخ ثقافتها في المجتمع السوري، حيث تقوم بشراء ولاءات شيوخ العشائر العربية خصوصاً في المناطق الشرقية، وإعطائهم صكوك نسب لآل البيت من أجل السيطرة الفكرية عليهم، إضافة إلى ابتداع المزارات والمقامات الشيعية في كل من دمشق وريفها ودير الزور وحلب، ناهيك عن عشرات المدارس الدينية لفك النسيج الاجتماعي السوري، بشكل يشبه الحالة العراقية واللبنانية".
روسيا تنافس في الساحل السوري
لم تهمل روسيا الجانب الاجتماعي والثقافي منذ تدخلها في الحرب إلى جانب النظام، حيث وجدت في منطقة الساحل السوري الاستراتيجية بالنسبة لها بيئة خصبة لزيادة تغلغلها، لاعتبارات عديدة أهمها القرب من قواعدها العسكرية على المتوسط، إضافة إلى وجود حاضنة شعبية في تلك المناطق التي لم تشهد عمليات عسكرية، فبات من الطبيعي مشاهدة صور الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والأعلام الروسية، إضافة لانتشار عشرات المراكز لتعليم اللغة الروسية، وإعلانات المنح التعليمية إلى روسيا.
ورصد موقع "تلفزيون سوريا" النشاطات الثقافية والتعليمية الروسية في الساحل السوري، وخصوصاً عوائل قتلى النظام، فنشرت وكالة "سبوتنيك" الروسية العام الماضي تقريراً حمل عنوان "أبناء الضحايا في سوريا يفضلون تعلم اللغة الروسية على باقي اللغات"، في إشارة إلى عوائل قتلى النظام في المعارك الدائرة مع المعارضة، وصرح من خلال التقرير مدير المركز الثقافي في اللاذقية "ياسر صبوح" قائلا " نعمل على تعليم اللغة الروسية وتقديمها مجاناً لذوي الشهداء، لإعداد جيل يتكلم اللغة، لتكون لغة صديقة وحليفة قدم متكلموها من أبناء الدولة الاتحادية جهوداً من أجل إعادة الأمان"، وفق تعبيره.
لم تهمل روسيا الجانب الاجتماعي والثقافي منذ تدخلها في الحرب إلى جانب النظام، حيث وجدت في منطقة الساحل السوري الاستراتيجية بالنسبة لها
اللغة الروسية "أساسية" في المناهج
افتتحت روسيا أوائل العام الجاري أول مدرسة روسية في الشرق الأوسط في العاصمة دمشق، وذكرت وسائل الإعلام الروسية أن المدرسة تقع تحت إشراف "بشار الأسد" و "الجمعية الإمبراطورية الأرثوذكسية" في سوريا، حيث سيتم فيها تدريس المناهج الروسية بعد ترجمتها إلى اللغة العربية.
وفي العام 2018، أُدخلت اللغة الروسية بشكل رسمي كلغة ثانية في المناهج الدراسية السورية، في المرحلتين الثانية والثالثة، إضافة لافتتاح قسم للغة الروسية في جامعة دمشق، وأًصبحت هناك كتب ومناهج روسية تدرس في المدارس، وهو ما أشارت إليه صحيفة "الوطن" الموالية للنظام بأن "المركز الصحفي لمؤسسة (روس سوترودنيتشيستفو) بصدد توريد كتب دراسية روسية مترجمة إلى العربية بالتعاون مع وزارتي التربية والتعليم العالي السورية، وأن وزير التربية والتعليم سيشرف على الترجمة بشكل شخصي، حيث ستحتوي الكتب المدرسية على قصص ونصوص مستقاة من الأدب الروسي كقصيدة اللقالق لـ(لرسول حمزاتوف)، وملاحم عن (إيليا موروميتس)".
عين موسكو على مناطق "التسوية"
سارعت روسيا بعد عمليات التهجير المنظمة والتي كانت ضامنة لها في كل من الغوطة الشرقية والمنطقة الجنوبية وصولاً إلى ريف حمص حتى حلب إلى التأسيس لبقاء دائم لها في هذه المناطق، وذلك لقطع الطريق على إيران عسكرياً بالدرجة الأولى، ومن ثم ثقافياً وإيديولوجياً.
وأكدت مصادر محلية في الغوطة الشرقية أن "الجمعيات الخيرية الروسية بدأت تنشط في المنطقة، حيث تقوم بافتتاح المدارس والمراكز الثقافية، كما حدث في مدينة زملكا وعين ترما قبل أشهر، حيث تم افتتاح مدرسة بدعم من "جمعية أنطاكيا وسائر المشرق للروم الأرثوذكس"، بعد حفل أُقيم بحضور عسكريين ونشطاء روس، وأكدوا من خلال كلماتهم على ضرورة إدخال المناهج واللغة الروسية للجيل الجديد، مع تقديم إغراءات بأن المتفوقين سيتم إرسالهم إلى روسيا لإتمام تعليمهم".
وفي شهر أيار الماضي، نشرت صحيفة "الوطن" الموالية فيديو يظهر زيارة نائبة مجلة الدوما الروسي " ناتاليا بوكلونسكايا" مدينة داريا بالغوطة الغربية، حيث قامت بزيارة إحدى المدارس وقامت بتوزيع الهدايا على التلاميذ بينها رسومات عليها شعار الدولة الروسية، حيث اختتم الفيديو بعبارة من طلاب المدرسة للنائبة "شكراً روسيا شكراً روسيا".