الكنيسة في القرون الوسطى.. دين ودنيا

2024.08.24 | 05:51 دمشق

آخر تحديث: 24.08.2024 | 05:51 دمشق

1444444444444
+A
حجم الخط
-A

ولد مصطلح السياسة في اليونان متزامنًا مع ولادة المدينة-الدولة، على الأغلب تلك الولادة التي حتمت اختراع أسلوب لإدارة العلاقات الداخلية وتنظيم شؤون الناس بشكل يضمن الاستقرار والاستمرار داخل المدينة-الدولة، ومن بعد ذلك يعتني بتنظيم العلاقات مع المدن-الدول المجاورة.

ولأن الشرق الأدنى سبق اليونان في ولادة المدن بألفي سنة على الأقل، فإن الشرق الأدنى عرف إدارة المدن والسكان كذلك قبل اليونان، وإن كان مصطلح السياسة لم يعرف قبل ابتكاره من قبل فلاسفة أثينا.

ظل تعريف سقراط للسياسة على أنها فن للحكم، أو طريقة للحكم، مهيمناً لفترة طويلة، حتى صعود نجم الكنيسة في روما كأكبر فاعل سياسي في أوروبا، ومعها هيمنت الأيديولوجيا على الحكم، فانتفت السياسة كفن للحكم لتصبح فنًا للسيطرة على الشعوب الأوروبية المؤمنة، إلى أن جاء القديس أوغسطين الذي غيّر كثيرًا في المفاهيم السياسية المعروفة في أوروبا. فبعدما سادت لقرون فكرة مسيحية طهرانية مفادها أن دولة الأرض هي دولة الشيطان، ولا عدالة ممكنة إلا في مملكة السماء، ظهر القديس أوغسطين بنظريته عن الدولة الإلهية أو مدينة الله كبديل عن دولة البشر الأرضية، مؤكدًا أن الإنسان المسيحي فرد في مدينة الله. وفي الحقيقة، ما كان لنظرية أوغسطين في دولة المسيح أن تظهر لولا سقوط روما بيد الغوطيين غير المسيحيين (الوثنيين).

لا شك أن أفكار القديس أوغسطين ساهمت في إقناع رجال الدين بأن الكنيسة يمكن أن تتدخل في عمل الدولة، بل تدفع الدولة إلى التحلي بالأخلاق.

وعلى الرغم من أن السيد المسيح لم يمارس السياسة وكان محايدًا، فهو أول من فصل بين السياسة والدين بقوله: "أعطوا لله ما لله وأعطوا لقيصر ما لقيصر"، إلا أن الكنيسة وجدت نفسها بعد سقوط روما مجبرة على الالتفات إلى الحياة الدنيا أو الحياة العلمانية -العلمانية كمقابل للحياة الكنسية أو الدينية- حتى أنها سيطرت على الجيش وحاول بعض رجال الدين البارزين إدخال إصلاحات على الكنيسة تمكنها من العمل مع الدولة. وفي ظروف معينة، أصبح أحد الباباوات أقوى من الإمبراطور، وهو ما كان عليه البابا غريغوري الكبير في إيطاليا.

لا شك أن أفكار القديس أوغسطين ساهمت في إقناع رجال الدين بأن الكنيسة يمكن أن تتدخل في عمل الدولة، بل تدفع الدولة إلى التحلي بالأخلاق، فمدينة الله يمكن بناؤها في الأرض وليس فقط في السماء. يقول أوغسطين: "إن مملكة الله يمكن أن تبدأ هنا على الأرض بهمة المؤمنين، ولكنها ظل لتلك"، أي هي ظل لدولة السماء. وتمنى من الحكومة أن تطيع الله، ولكن لم يطالبها أن تحقق مطالب الإنجيل أو ترتبط به، بل أن تتجدد نحو الأفضل. يقول: "إن للدولة دعوة إلهية كي تحقق مقاصد الله على الأرض حتى لو كانت الدولة وثنية"! لكن هذا يقتضي معرفة إدارة هذه الدولة الدعوية وبالتالي معرفة قوانين السياسة، مع أنه يقول في مكان آخر إن البشر ليسوا سياسيين بطبيعتهم. كانت هذه النظرية فاتحة لتدخل الكنيسة في الدولة وفي الحياة العامة منذ سقوط روما كما أسلفنا، وهو ما نجم عنه صراع بين رجال الدين والنبلاء والإقطاعيين. وابتداء من القرن الحادي عشر بدأت الكنيسة تتدخل على نحو أعمق وأوسع في السياسة.

فلزمن طويل بقي البابا ملك ملوك أوروبا وقائدهم الروحي والسياسي أيضًا، وسيطرت الكنيسة الكاثوليكية بقيادة البابا على السياسة والسياسيين، وزاحمتهم في النفوذ في إقطاعيات وإمارات عديدة. وحينما حاول الإمبراطور هنري الرابع التدخل في سياسة الكنيسة والحد من سلطة البابا غريغوري، هدده الأخير بعزله، فما كان من الإمبراطور إلا أن قدم إلى روما مذعناً معتذراً ليقبّل قدمي البابا في مشهد تراجيدي لا يُنسى.

وعلى الرغم من أن نهضة المدن والإمارات الإيطالية جرت برعاية الأمراء والقادة السياسيين المحليين، إلا أن هؤلاء الأمراء ما كان لهم أن يقرروا السياسات العامة التي بقيت شأناً باباوياً.

في أوروبا القرون الوسطى، ابتلعت الكنيسة السياسة لصالح أيديولوجيا دينية، وتماهى رجل الدين مع الحاكم. فالباباوات كانوا الحكام الحقيقيين لقرون عديدة، ولأنهم بالغوا في سطوتهم درجة تحريمهم على العوام في سائر أوروبا قراءة الإنجيل بلغاتهم المحلية، وفرضوا ضرائب تثقل كاهل الفقراء، فقد اندفع مارتن لوثر للاحتجاج على الفساد في الكنيسة الكاثوليكية وعلى سلطة البابا الدنيوية عبر حركة الإصلاح التي تحولت إلى البروتستانتية لاحقًا (البروتستانت أو المحتجون). نشر لوثر أفكاره الاحتجاجية عبر مئة اعتراض كتبها وعلقها -على نمط المعلقات العربية- على بوابة إحدى الكنائس الشهيرة، ومعظمها تفنيد لأوامر وأفعال الكنيسة الكاثوليكية. ويبدو أن حركة مارتن لوثر كانت بداية للدعوات التي اشتدت قوة بعد ذلك للفصل بين الدين والدولة.

حتى الآن، يتوج ملوك وملكات بريطانيا في كاتدرائية ويستمنستر، في تقليد منذ نحو ألف عام إثر انتصار ويليام الفاتح في موقعة هاستينغز.

ثم جاء صلح ويستفاليا ليسحب من البابا والكنيسة نفوذهما السياسي، ويمنعهما من التدخل في أكثر مناحي حياة المؤمنين، الأمر الذي كان يطبق على أنفاس الأوروبيين.

وعلى عكس التراتبية التاريخية لجمع الكنيسة الكاثوليكية بين السلطة الدينية والسلطة الدنيوية، فإن السلطة السياسية لملوك بريطانيا أضيفت إليها السلطة الدينية، إذ منح بابا الكنيسة الكاثوليكية ليو العاشر ملك بريطانيا هنري الثامن لقب "حارس العقيدة" ربما في محاولة لإرضائه. وبقي ملوك إنجلترا الأربعون من بعده يحملون اللقب، حتى بعد انفصال كنيسة إنجلترا عن الكنيسة الكاثوليكية وتحولها إلى المذهب الإنجيليكاني في القرن السادس عشر.

وحتى الآن، يتوج ملوك وملكات بريطانيا في كاتدرائية ويستمنستر، في تقليد منذ نحو ألف عام إثر انتصار ويليام الفاتح في موقعة هاستينغز. وبعد الانفصال عن الكنيسة الكاثوليكية، وافق البرلمان البريطاني على تعيين الملك كرأس لكنيسة إنجلترا.

جمعت الكنيسة والبابا بين الدين والسياسة، أي بين الدين والدنيا، الأمر الذي كان يُظن أنه أمر مقصور على الإسلام. فكانت الكنيسة تمارس أعمال الدولة، بل أعمال دولة إمبراطورية تمتد عبر أوروبا لتصل سلطتها المعنوية والسياسية إلى أبعد قرية كاثوليكية في أقصى الشمال والغرب الأوروبيين. وامتلك ملوك العرش البريطاني البروتستانت ما يشبه موقع البابا الكاثوليكي، فاحتكروا في أيديهم السلطة الدينية والسلطة الدنيوية المدنية، كما أسلفنا، وهو ما يشير بدلالة قاطعة لا تخطئ إلى نزوع البشر عندما يصبحون حكامًا أو يولدون ملوكًا إلى امتلاك كل سلطة ممكنة في العالم، حتى لو كانت سلطة دينية أو إلهية يدّعونها فيرفعوا من مكانتهم، وبالتالي يعززون قوة حكمهم وتحكمهم، متشبهين بقوة المطلق فوق العالم!

فإذا كان البابا يزاحم الإمبراطور، فإن للملك وجاهة البابا ورمزيته. وهذا التبادل في المواقع والصلاحيات بين الديني والدنيوي ليس عبثًا، وسنجده سابقًا ولاحقًا في سلطة الخليفة المسلم أمير المؤمنين، التي يختلط فيها الديني والدنيوي. وربما نجد هذا الجمع بين الديني والدنيوي في ثقافات أخرى عبر قارات العالم القديم وثقافاته.