قليلة هي الدراسات التي سلطت الضوء على حياة الكاتب عمومًا، بكل ما فيها من فوضى ورتابة، بكل التناقضات التي تركنها أحيانًا على ضفة الحياة العادية التي تشبه حياة أي إنسان، كما ترسيها أحيانًا أخرى على ضفة الفرادة، الفرادة التي تحكم الكاتب بنمط حياة مختلف على كل المستويات.
ففي الجانب الأسري مثلًا؛ نرى كتّابًا عاشوا حياة أسرية مستقرة نوعًا ما، وليس لهذا الأمر علاقة في ازدياد أو نقص بدرجة إبداعهم، في المقابل نرى كثيرًا منهم عزفوا عن الدخول إلى مؤسسة الأسرة أو فشلوا في الاستمرار فيها، وعلى الرغم من اشتغال هؤلاء أعمالًا تتسم بصبغة رومانسية إنسانية، إن كانت في ميدان الرواية أو القصة أو الشعر فإنهم فضلوا الابتعاد عن الارتباط، فعلى سبيل المثال فضلت الروائية الإنجليزية "جاين أوستن" حياة الحرية والكتابة على الارتباط بشريك يقاسمها أو يقود حياتها، أو كما نقل عنها؛ "كي لا تنشغل عن مشروعها الأدبي"، ومثلها في عالمنا العربي كثر، فمن المعروف أن الشاعر "محمود درويش" بقي عازبًا حتى وفاته، وعلى الرغم من عدم تأكيد الأمر خصوصًا بعد تصريح الشاعر والروائي السوري "سليم بركات" الذي أكد فيه أن درويش كان قد تزوج سرًا وله بنت من زواجه، فهذا يؤكد أيضًا على اعتلال مؤسسة الأسرة في فكر الكاتب وعدم إيمانه المطلق بها، وأيضًا عُرف عن الأديب "نجيب محفوظ" أنه أسرّ بزواجه لعشر سنوات قبل أن يُكشف الأمر للعلن.
من جانب آخر حضر "الطلاق" كسِمة طاغية على الجانب الأسري في الوسط الأدبي، وربما إن نظرنا إلى الأمر بمنظور نسبي سنراه اليوم قد ازداد أكثر مما كان عليه في السابق.. فمنذ "آرنست همنغواي" الذي انفصل عن ثلاث زيجات على الأقل، وقبله؛ وحتى يومنا هذا، اختلفت نسب الانفصال، ولم تختلف أسبابه.
وفي كلتا الحالين هناك أمثلة كثيرة يصعب حصرها، لكن السؤال الأكثر إلحاحًا، إذا ما قارنا -وذلك من خلال المشاهدات والاطلاع- نسبة الفشل في الاستمرار والاستقرار في مؤسسة الأسرة بين الكاتب واللا كاتب، بالطبع إن استثنينا أوساطًا مثل الوسط الفني، فإننا سنلحظ أن نسبة الكتّاب تطغى إلى حد ما.
فما هي الأسباب التي تجعل هذه النسبة متقدمة؟
بالتأكيد لا يمكن طرح هذه الظاهرة بتنميطها، أو الخوض فيها كبحث اجتماعي، لأنها ستحتاج إلى ما هو أكثر من مقال، لكن لا بد من الإضاءة على جوانب عديدة منها.
لا يمكن إغفال حال التمرد التي يتبناها الكاتب تجاه كل شيء، وركونه فقط إلى الكلمة التي يحاول ترويضها والتآلف معها، فحال التمرد تلك تُكسب صاحبها مساحة يكون فيها بعيدًا من ملاطفة المجتمع والانخراط في محاباته
إنْ قمنا بتوجيه السؤال الآتي "هل لكونك كاتبًا علاقة في فشل حياتك الأسرية؟" إلى لا على التعيين من الكتّاب، ربما سيكون الجواب "لا"، وربما يكون ذلك أحد الأسباب الرئيسة، وقلة سيعزون الأمر إلى الكتابة، إلا أننا إنْ حاولنا التوغل قليلًا في شخصية الكاتب، سنجد أنها شخصية تتسم بنزعة نحو الحرية، تحاول دائمًا التخلص من القيود والأعباء التي يفرضها المجتمع والحياة، لذلك يميل الكاتب إلى العزلة في أكثر الحالات، العزلة التي يحافظ فيها على نفسه ومشاعره، وعلى فوضاه الداخلية التي تمثل إحدى ركائز إبداعه. وللمزاجية الخاصة أيضًا دورها في ابتعاده من محيطه وإبعاد الآخر منه، فقلةٌ من الشركاء يستطيعون فهم هذه المزاجية والتماهي معها، من ثم المحافظة على العلاقة. إنها المزاجية التي تدفعه إلى القيام بأفعال قد يراها المجتمع هجينة، لأنها لا تتوافق والأنظمة والقواعد المتعارف عليها، لأنها تنتج من منطقه الخاص الذي يراه الآخرون جنونًا، أو ربما هو جنون حقًّا، فالأديب لكي يكون حقيقيًّا، لا بد له من ثورةٍ على المألوف وسلطة النموذج الواحد، فالنص حين يطرق باب عقله وجوارحه يشكل إعصارًا جارفًا يزيح كل شيء أمامه ليكون كما يجب، إذ يغار على صاحبه من كل من يحيطون به، لأنه يحب أن يحافظ على خصوصيته بعيدًا من تطفلهم.
ولا يمكن إغفال حال التمرد التي يتبناها الكاتب تجاه كل شيء، وركونه فقط إلى الكلمة التي يحاول ترويضها والتآلف معها، فحال التمرد تلك تُكسب صاحبها مساحة يكون فيها بعيدًا من ملاطفة المجتمع والانخراط في محاباته، وهذا يقلل فرص عثوره على الآخر المناسب لهذا النمط من الحياة. ومن هنا إن نظرنا إلى العلاقات التي قامت بين شخصين من نمط التفكير نفسه، أي بين كاتبين، سنجد أنها أكثر استقرارًا من تلك التي قامت بين كاتب ولا كاتب، بغض النظر عن التصنيف الجندري، ومن الأمثلة على ما سبق: "محمد الماغوط وسنية صالح"، "مريد البرغوثي ورضوى عاشور"... وغيرهم كثر، والسبب في ذلك ربما يعود إلى نسبة التفاهم بين الطرفين، لأنهما يعيشان الحال التقلبية نفسها، ما بين سكون وعاصفة، وبين ابتسامة ودمعة، أو بين حنين إلى الماضي وعيش في الواقع المفروض، كلها سلسلة مد وجزر عاطفيين، ولا يمكن أن يتفهمها إلا من تتلبسه الكتابة بأنواعها كافة.
والأمر الذي نتحدث عنه لا يقتصر على علاقة الإنسان بالجنس الآخر، إنما ينطبق أيضًا على حياة الكاتب ضمن أهله أيضًا، لأن الظروف متشابهة إلى حد كبير، وكثيرًا ما نجد مشكلات فكرية قائمة بين الكاتب وغيره من أفراد أسرته، والسبب هو أنه ينظر إلى الأمور من زاوية رؤية مغايرة يصعب على الآخرين استيعابها، لأنها تنجم من صراع داخلي يعيشه باستمرار بين وعيه ولا وعيه.
ولا يمكن بشكل عام وضع الكاتب بين مزدوجين من اللوم على سلوكه ونمط حياته، فالآخر أو الشريك إن لم يصل إلى حال الفهم لسلوكيات وخصوصية شريكه، فمن المؤكد سيكون مصير أي علاقة لا تخضع لهذه التفاهمات الفشل.
عمومًا، هذا النمط من السلوك الذي ينهجه الكاتب يؤثر سلبًا في تكوين علاقات مستقرة إن لم يُفهم من طرفي العلاقة، وضمنيًا يحاول صاحب هذا السلوك إنكاره كسبب رئيسٍ أحيانًا أو أحد المسببات التي أدت به إلى الخروج من مؤسسة الأسرة، أو عدم الانخراط فيها من الأصل، لأنه يستمد تقييمه للحال من الواقع الذي يعيشه والظروف التي تحكمه وشريكه.