إدراك طائفية نظام سياسي لا يعني التعصب لهوياتنا الطائفية المناظِرة له، فالوعي بطائفية الآخر يعني فهم دوافعه، وتوقع ردود أفعاله. الوقوع بالخندق الآخر يعني سقوطنا جميعاً في فخ التعصب والعنصرية، والتسامي والترفع عن محاكاة الطائفيين هو بداية الحل، وليس نهايته.
هل للتعليم دور في تأجيج الفتنة الطائفية؟
تنهار الأجساد البشرية عند إصابتها بالأوبئة والأمراض، بينما تنهار المجتمعات إذا أصابتها طواعين من نوع آخر.
تتناول رواية "فئران أمي حصة" للكاتب "سعود السنعوسي"، طاعون الفتنة الطائفية من وجه نظر الناس بعيدا عن السياسة والإعلام، وتحذر من تفشيه: "الفئران قادمة.. احموا الناس من الطاعون"، إنه وباء العنصرية المتولدة عن الأدلجة الطائفية.
مكان الرواية منزل صالح "السنّي"، وبيت عباس "الشيعي" في دولة الكويت. شخصيات الرواية كثيرة تربك القارئ، ولكن يكفي أن نعرف أن البيت السني لديهم شاب اسمه فهد أبوه صالح وأمه عائشة وجدّته "حصة"، بينما يتكون البيت الشيعي من الشاب صادق، أبوه عباس وأمه فضيلة وجدته زينب، وله أخت اسمها حوراء.
ومن الملاحظ أن جيل الجدات "حصة وزينب" جيل متسامح رغم قلة تحصيله التعليمي، بينما يبلغ التعصب أوجه بجيل الأبناء "صالح وعباس"، ويجمع جيل الأحفاد "فهد وصادق" بين تسامح الجدات وتعصب الآباء، لذلك هم حالة وسطى بين هذا وذاك، ويسعون لتغليب تسامح الجدات من خلال تأسيس جماعة باسم "أولاد فؤادة" تنادي بالوحدة الوطنية.
كأن نوعية التعليم تغذي هذه العصبيات النائمة، وهذا ما يذكره الراوي في مطلع الفصل الثالث: "الجهل بالشيء نعمة في بعض الأحيان، والطفل في لهجتنا جاهل، ونحن الجهَّال، كنا نعيش هذه النعمة، نعمة الـ لا أدري"، فالتعصب يجد فضاءه الواسع بأنصاف المتعلمين، بينما تمام التعليم يولد وعيا كفيلا بالتخلص من رواسب هذه العصبيات.
بدايات مبشرة ونهايات مؤلمة
رغم ضخامة رواية "فئران أمي حصة" يمكن تلخيص ثيمتها بثلاثة مشاهد، فمشهد اتفاق صالح السني مع عباس الشيعي مبشر، لكننا نصاب بخيبة الأمل عندما يكون الاتفاق على "أبي سامح" الفلسطيني، وذلك بخلاف حدث بينهم، ويبرَر هذا الاتفاق بالمثل الشعبي "أنا وأخوي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب"، وهذا مؤشر أن العنصرية قد تأخذ شكلا طائفيا، وقد تتحول إلى أشكال أخرى: مناطقية، عرقية، قبلية... وفقا للمناخ العام السائد.
نحن أمام نموذجين: الأول إصلاحي والثاني سلطوي يؤجج المشاعر الطائفية ويضبط إيقاعها على صوت معاركه، في الداخل والخارج
زواج فهد السني بحوراء الشيعية؛ مشهد ثانٍ يبشر بانتهاء الصراع الطائفي بين العائلتين، لتبدأ خيبة الأمل بسرعة مع نشوب الخلافات منذ اللحظة الأولى؛ لحظة عقد القران وعلى أي مذهب سيعقد. وتستمر الخلافات بعد إتمام الزواج، على أسماء الأبناء.
ولعل مشهد تأسيس "فهد وصادق" جماعة "أولاد فؤادة" التي تنادي بالوحدة الوطنية، ونبذ الخلافات المذهبية مبشر، فهما من جيل أكثر وعيا من جيل الآباء، يضاف أن بينهم مصاهرة، لكن في نهاية الرواية يحدث إشكال بسيط بينهما، سرعان ما يتحول إلى سباب طائفي قذر؛ إذ خرجت عبارات مثل "خوارج، وهابية، فُرس" من أفواههم بسرعة وسلاسة، وهذا دليل أن اللاوعي الطائفي المتعصب تجاه الآخر لا يزال كامناً ومتأهباً للظهور، فبعض "الأورام لا يكفُّ نموًّا إلا بموت الجسد"، ولعل سرطان الطائفية واحدا منها.
الأطوار الساكنة للتعصب الطائفي
تبين الرواية من خلال المشاهد الثلاثة السابقة أن التعصب الطائفي يمر بأطوار ساكنة، ونشطة، وسكونه لا يعني موته، وهذه الخلاصة تؤكد ثقافة الروائي وسعة اطلاعه، فقد استطاع بنجاح أن يوصل للقارئ ما حاول الكاتب والسياسي السوري برهان غليون إيصاله من خلال كتب ودراسات طويلة، ففي كتابه "نظام الطائفية من الدولة إلى القبيلة" يحذر غليون من اندلاع موجات من الصراع الطائفي مجددا في العالم العربي: "إذا لم يكن هناك اليـوم انفجارات طائفيـة عنيفة في المجتمع العربي، فإن التعبئة النفسية قوية جداً، والأحكام المسبقة أضحت جاهزة لتوجيه سلوك النـاس هـذا الاتجاه. ولا نستطيع أن نراهن إلى ما لا نهاية على الطابع غيـر النشط لـطائفيـة الأغلبية التي بقيت حتى الآن عاطلة نسبياً، فخطر تحول الطائفية العاطلة أو السلبية إلى طائفية نشيطة لا ينبغي أن يستبعد أبدأ".
قراءة نقدية في "القوقعة.. يوميات متلصص"
محور رواية القوقعة هو النكتة السياسية، لكن قارئها سيبكي ولن يضحك. تتلخص نكتة القوقعة برحلة شاب مسيحي درس الإخراج السينمائي في فرنسا، وعند عودته يعتقل في المطار لانتمائه إلى تنظيم "الإخوان المسلمين"، وما يزيد الأمر سخافة أن الشاب المنتمي إلى عائلة مسيحية، ملحد ولا يدين بدين.
استمر في السجن 13 سنةً، وخرج بمعجزة إلهية بعد أن أصبح خاله وزيرا، ولكن قبل خروجه يكتشف أن سبب اعتقاله نكتة تفوه بها أمام مجموعة أصدقاء تناولت مقام الرئيس، فكتبها أحدهم ضمن تقرير أمني.
ليسجن ضمن زنازين الإخوان المسلمين كونه منهم بحسب إدارة السجن، ولكن أفراد التنظيمات الإسلامية اعتبروه جاسوسا للأمن. جردوه من هذه التهمة بعد رؤيتهم حجم التعذيب الذي يتعرض له بعد سنوات من السجن، لكن نظرتهم له كـ "كافر ونجس" بقيت مسيطرة عليهم، فلا يجوز الاختلاط به. من هنا يأتي اسم الرواية، فقد تقوقع على نفسه للنجاة، ثم شاءت الظروف أن يحدث ثقبا عند زاوية الباب حيث كان يجلس في قوقعته الأولى تحت بطانيته، محكمة الإغلاق، ولها فتحتان؛ إلى خارج المهجع حيث يرى أساليب التعذيب، وإلى الداخل حيث يرى المساجين ونقاشاتهم وخلافاتهم ومعاناتهم، لينسحب إلى داخل قوقعته "كسلحفاة كلما أحس بالخطر، ويجلس فيها، يتلصص، يراقب، يسجل، وينتظر الفرج".
في منتصف الرواية تقريبا يسهب الروائي في شرح خلافات التنظيمات الإسلامية "السنية" في مهجعه، ويبين أنها خلافات كبيرة تصل إلى حد التخوين والاتهام بالردة، لذلك يغيب عن الرواية الصراع الطائفي بين الطائفتين، وأغلب النقاشات هي داخل الطائفة السجينة، وتحضر الطائفة الأُخْرَى على ألسنة السجانين في موجات التعذيب، وفي أثناء الإعدامات الميدانية في ساحة السجن على شكل مسبات بذيئة بلهجة تلك الطائفة. أحيانا يشار إليها بطائفة الرئيس، فبعد معرفة أن طبيب السجن بدأ يقتل زملاءه الأطباء المساجين، ولدى سؤال بعض الأخيرين عنه قالوا: "هذا الطبيب زميل دراستنا، وتخرجنا سوية. هـو مـن السـاحل، مـن طائفة الرئيس وعشيرته، وبعد التخرج ما عاد شفناه".
المنظور في الروايتين
عند مقارنة رواية "القوقعة" مع "فئران أمي حصة" من حيث الموضوع نجد أن صاحب القوقعة "مصطفى خليفة" كتب رواية تسجيلية ذات طابع تقريري، فانصرف إلى التوثيق وترك طرح الحلول، فالأدب غير معني بإيجادها. وهي تجربة ذاتية عاشها المؤلف ليعكس حالة ملايين المغيبين قسرا، والذين تتزايد أعدادهم كل يوم.
أما رواية السنعوسي فهي تنطلق من فكرة "وجود دور اجتماعي للأدب"، وهذه الفكرة تحتاج إلى مراجعة، فالأدب ذاتي يوازي الواقع، ولا يتطابق معه، لذلك نجد الرواية تدعو للسلم والوحدة الوطنية ونبذ الطائفية.
في رواية القوقعة يروي الأحداث سجينٌ يتعرض للتعذيب، ويوثق يومياته، وله رأي وموقف مما يجري، بينما في "فئران أمي حصة" تروى الأحداث من خلال شخصية دون اسم، تقف على مسافة متساوية من الطائفتين؛ ورغم أنه سني ولكنه غير مؤدلج ولا متعصب، يروي مشاهداته ويرصد الأحداث دون موقف متحيز: "كنت أرصد ما يجري حولي لا رأي لي"، يقول الراوي.
أفكار السنعوسي تتقاطع مع أفكار الراوي، وهذا واضح من خلال العديد من لقاءاته على القنوات الفضائية، حتى عمره يقارب عمر الراوي، بينما مصطفى خليفة لم يكن لديه بحبوحة اللعب على الأشكال الروائية، لذلك كتب ووثق الحالة بعيونه كسجين وراوٍ وروائي، لذلك جاءت صادقة، حقيقية، مختزلة، كرصاصة أصابت هدفها دون ترهل وتمطيط.
على العموم، نحن أمام نموذجين: الأول إصلاحي، والثاني سلطوي يؤجج المشاعر الطائفية ويضبط إيقاعها على صوت معاركه، في الداخل والخارج.
صحيح أن النموذج الأول إصلاحي، ولكنه مؤقت. وربما كانت عملية توقيف عرض مسلسل "الرحلة 422" الذي شاركت فيه الفنانة السورية واحة الراهب يندرج تحت هذا النموذج، وهو محاولة لإطالة مدة خمول بركان الطائفية الحي والساكن، وكذلك الأمر بالنسبة لمسلسل "معاوية".
أما مشاكل النموذج الثاني فهي معقدة، ومتشعبة، والسلطة فيه هي من توظف الطائفية وتؤججها، والثورة ضده سيكون ثمنها باهظ جداً، وأقرب مثال على ذلك التجربة السورية.