على الرّغم من منسوب البراغماتية والانتهازية الطافح في كتاب "الأمير" لمكيافيللي، إضافةً إلى "الواقعية العنفية" التي اتسمت بها رؤيته ففضحت حقيقة الفعل السياسي، إلا أنّ صاحب الحنكة والدهاء حرص على تثبيت المُلك من خلال الموازاة الحذقة بين دوام السلطة المستبدّة وكمّية العنف ولزومياته ومواقيته والحاجة إليه، جازماً للأمير أنه لن "يضمن ولاء الناس إلا بالعنف". رؤية استندت إليها، لاحقاً، نُظُم أمنية مغلقة، تتبنّى العنف الصريح منهجاً وحيداً للعمل السياسي وغير السياسي. تتستَّر بالشعارات الكبيرة كي تبرِّر وجودها اللاشرعي، كذلك استخدامها لوسائل القوة المادية غير المقوننة لتطويع وكسر إرادة شعوبها.
من المفيد الإشارة إلى أنّ العنف السياسي الصريح، أيّاً كان شكله ومصدره، هو نوع من الإرهاب المادي العضوي، تنتهجه الأنظمة القهرية ضد شعوبها، باستخدام جميع أدوات الإبادة والتدمير المادية، بهدف قسرها وكسرها. في المقابل ثمّة إرهاب يخرج عن القيم والمعايير الإنسانية، يتجسد في مظاهر الخداع المجتمعي والتشريد العنفي، بوصفها أقنعة تتيح مجالاً استعارياً لقراءة كثير من تطرّف الطغمة الحاكمة، مثلما تتحول إلى مجسات لتلمّس المضمر في أنساق صراعية، ذات أبعاد سياسية واقتصادية وحتى ثقافية وفكرية. عند التأمل فيها نراها أشبه بـ"وثائق سرية خطيرة" للإدانة ولتعرية السلطة ومركزياتها المهيمنة. تخرج عن وسائل الضبط الاجتماعي، العُرْفية والوضعية، بهدف التخلُّص من الهدف بطريقة لا تخلّف أي دماء وأي أشلاء. باختصار هو عنف غير مباشر، مقنَّع، مسكوت عنه بكلّ الأحوال.
قد لا يمسّ هذا العنف الرمزي غير صاحب العلاقة، كما سيتهيأ للجميع. لكنه، فعلياً، يمثّل مرجعية أيديولوجية وعصابية لظاهرة الانتهاك غير البعيدة عن تعالقاتها الحاكمة للنظام السياسي
وعليه من كان يصدّق أنّ النظام السوري سيتفوق على ميكافيللي في أفكاره، بعدما ابتكر شكلاً مدهشاً من العنف التقليدي، أشبه ما يكون بـ"قنصٍ ناعم" لإرادة السوريين وأحلامهم. في الوقت عينه يمكن لفعل القنص الناعم هذا أن يكون، في حقيقته، خطاباً عنفياً صريحاً وبدلالات مادية ورمزية، يمسّ ما هو جوهري في حقوق المواطن السوري وكرامته، لأنه، يُعبّر عن سلوكٍ يتّسم بغلو الإذلال والقسوة المبطنة، على الذات والهوية، قبل الجسد. خذ مثالاً الفيديو الذي انتشر مؤخراً يظهر فيه أحد عناصر مخابرات الأسد يقوم بتهديد اليوتيوبر السوري يمان نجار، والتأكيد عليه إذا ما عاد إلى إزعاج "إلّي بيعزّو عليه" سيقوم بملاحقة كلّ شخص يحمل اسم عائلته.
قد لا يمسّ هذا العنف الرمزي غير صاحب العلاقة، كما سيتهيأ للجميع. لكنه، فعلياً، يمثّل مرجعية أيديولوجية وعصابية لظاهرة الانتهاك غير البعيدة عن تعالقاتها الحاكمة للنظام السياسي. تسوّغ العنف والقوة، لدفن "المقموع والمسكوت" عنه، اللذين يحملان خطاباً ضدياً في سرديات الجماعات المهمشة. فيغدو مصدراً مهماً لفضح وثائق الطغمة الحاكمة وتخيلاتها. وهو كمفهومٍ فكري وسياسي إلغائي في بلد يعيش أزمات ملتهبة ومستمرة، كسوريا، لا بدّ أن تزدهر مناخاته ومنابعه، بوصفه جزءاً مهماً من المشروع السلطوي للنظام السوري.
ففي سوريا لم تعد تقتصر أشكال العنف على ضحايا البراميل والغازات السامة والرصاص والتجويع والتعذيب والتهجير والتصفية المباشرة.. إلخ. اليوم بات هناك عنف أكثر ضراوة وخبثاً، خاصّة بعدما عمدت النخب الحاكمة، التي شكَّلت نظماً أمنية وعسكرية مصمتة، إلى بناء جدران عالية فاصلة بينها وبين السوريين، جعلتها لا ترى حقائق الأرض، وتعقيدات ومشكلات الحياة اليومية، أو أنها تراها فقط من منظورها الأمني، ومِن زاوية: مَنْ معي، ومَنْ ضدي؟. لعلّ أبرز أشكال هذه الجدران تصريحات المسؤولين المنفصمين عن الواقع، والتي تبدو أشبه بخطاباتِ عنف كثيفة تتدفّق من كلّ حدب وصوب، كسمومٍ قاتلة.
خذ عينة تداولتها وسائل التواصل الاجتماعي في الآونة الأخيرة: "محمد قبنض يقول: حربٌ مفتعلة ولعبة قذرة بين روسيا وأكرانيا وحلف الناتو هدفها التشويش وصرف الأنظار عن انتخابات المجالس المحلية بسوريا.. الأمين العام المساعد لحزب البعث سابقاً عبد الله الأحمر عقب الإدلاء بصوته: انتخابات المجالس المحلية تأتي بعد انتصار سوريا على المؤامرة.. مدير التربية في حكومة النظام السوري يؤكد أنّ المشاركة في انتخابات الإدارة المحلية واجب وطني وهو من صلب عمل (المؤسسة التربوية) لتعزيز الانتماء الوطني لدى المجتمع.. بثينة شعبان تؤكد في تصريح لها أنّ العدو يشغل المواطن بلقمة عيشه على حساب التفكير الاستراتيجي!".
إنّ عمل مكيافيللي، لا شك، نوعٌ من الصناعة الصيدلانية العبقرية في الفكر السياسي، الذي يبحث داخل كلّ حالة عن القدر الصحيح من العنف، الذي يتّضح أنه ضروريٌ من أجل إنقاذ السلطة، علماً أنه يأخذ في الحسبان أنّ تداخلهما أمر حتمي. وباعتبار أنّ أذرع السلطة الأسدية الأخطبوتية قادرة على التمددٌ في الميادين الحياتية كافةً، لذا فهي مؤثرةٌ في مختلف أوجه نشاط السوريين ومجالات تفاعلهم. وهي سلطة بناء الواقع تسعى إلى إقامة نظام معرفي وإعادة إنتاج النظام الاجتماعي على أساس "العنف الرمزي". ليكون عنفاً نائماً خفياً وهادئاً، غير مرئي وغير محسوس حتّى بالنسبة إلى ضحاياه السوريين المنتشرين في كلّ مكان.
على سبيل الذكر لا الحصر:
"سوريون في أحد شوارع بانياس يجمعون المازوت بعد تسرّبه من أحد الصهاريج وتعبئته في عبوات بلاستيكية... برنامج حواري على قناة إخبارية تابعة للنظام، تداول موضوع: "الشتاء على الأبواب، بماذا سيتدفأ الأوروبيون!"... طفلة نازحة في إحدى مخيمات إدلب تتمنى خيمة في العيد.. إغلاق المكتبات في دمشق.. تسرّبُ جثثٍ لمهاجرين، منهم سوريون، حتى جزيرة أرواد.. "الرئيس منيح بس إلي حواليه....".. افتتاح مطعم فاخر خاص بمستشارة الأسد من واردت الصمود والتصدي، ثمن وجبة واحدة فيه تعادل راتب شهري كامل.. فوز الأسد بالانتخابات الرئاسية بنسبة 99.9%.. حرق الأراضي الزراعية في مواسم حصادها.. طوابير الخبز المتاخمة لطوابير الآيفون... قانون الجرائم الإلكترونية.. فرض ضريبة على الكلاب.. إلخ
العنف السوري الناعم يُمارس بالطرق الرمزية الصرفة يعزّزه واقع الجهل والاعتراف والاستسلام. أسلوب خبيث، لكن لا شك عبقري، موجه إلى عامة السوريين لقنص آمالهم وإرادتهم وأحلامهم
واقع "انفلات العنف وعبثية السلطة المطلقة" يجسد العلاقة الفوقانية الجائرة بين الحاكم والمحكوم. ما يستدعي، بالضرورة، تنسيب العنف من خلال ربطه بجذوره وبالأسباب المولّدة له في المجتمع السوري، وتقصّي تقاطعاته وتأثيراته في ميادين السياسة والاجتماع والاقتصاد والدين والثقافة وجميع عناصر البيئة الحاضنة له. تنسيب العنف هذا يُعدّ بمنزلة مفهومٍ مفتاحي للإحاطة الموضوعية بجوهر السّلطة الأسدية وفكّ شيفراتها "الملغزة". لما له من قدرة على التواري في خفايا الحياة الاجتماعية، وإخضاع الآخرين، باعتبارهم موضوع الفعل السياسي وغير السياسي. والنتيجة، بالطبع، حكومة منفصلة كلّياً عن المجتمع المهمّش والمدمّر، وشعب مقصيّ عن ساحة الفعل والإبداع الحضاري، أي عن تقرير مصيره بيده.
ملاك القول إن العنف السوري الناعم يُمارس بالطرق الرمزية الصرفة يعزّزه واقع الجهل والاعتراف والاستسلام. أسلوب خبيث، لكن لا شك عبقري، موجه إلى عامة السوريين لقنص آمالهم وإرادتهم وأحلامهم بأشكال عدّة، تترجم في مجملها إلى إشارات وأدوات للمواجهة غير المباشرة. بطبيعة الحال خطة النظام السوري تتجه نحو توليد حالة مستمرة من الإذعان والعجز، التي تصدّرها قوى اجتماعية وطبقية متمركزة في موقع الهيمنة والسيطرة. في الطقوس والمراسيم والاحتفالات والشعائر. في الثقافة والأيديولوجيا والمقدّس. في المدارس والجامعات والشوارع والبيوت وأماكن العمل. هذه كلّها مقارّ لامرئية متوّرمة بمظاهر العنف الناعم، لكنها آمنة، وتهوّن تقنّع عنف السلطة. فالسلطة المستبدّة مثوى العنف المطلق، وهو نهجها ودأبها الذي تتنوّع في ابتكار تلويناته وتشعيب مسالكه.