"القبيلة اللاجئة وتحوّلات البنية والدور (قبائل شرق سورية أنموذجًا)" عنوان بحث نُشر أخيرًا عبر مركز حرمون للدراسات المعاصرة في إسطنبول، سلّط من خلاله الكاتب والباحث السوري مناف الحمد الضوء على الإرث الذي انتقل مع أبناء قبائل المنطقة الشرقية إلى مناطق اللجوء، سعيًا منه إلى فهم التحولات عبر مسارها التاريخي الذي لا يمكن فصل ماضيه عن حاضره إلا فصلًا أيديولوجيًا قسريًا.
وعمد البحث إلى تتبع التحولات التي أصابت الرمزية القبلية بسبب تغير البيئة، وذلك بمقاربة شاقولية في منطقة الدراسة، وأفقية عبر مقارنة واقع القبيلة اللاجئة في أورفة التركية ومدن ألمانية. كما عمدت الدراسة إلى استكشاف التغيرات التي أصابت نمط الحياة، وتحديد الأنماط السائدة في مناطق اللجوء المدروسة.
ولأن الواقع الافتراضي الموازي للعالم الواقعي قد أصبح فضاءً لا يمكن إغفاله في محاولة فهم أي ظاهرة اجتماعية، فقد حاول البحث أن يُحلل منشورات صفحات ثلاث قبائل من شرق سورية، في (فيسبوك)، من أجل معرفة أكثر المواضيع تداولًا في هذه الصفحات، وتحليل أسباب الاهتمام بمواضيع معينة أكثر من غيرها، وهو تحليل لمحتوى ثلاث صفحات لكل قبيلة، اختارها الباحث لكونها أكثر تفاعلية، وقد دعم تحليل المنشورات برسوم بيانية، وبأمثلة من عينات من هذه الصفحات.
تشريح القبيلة في شرقي سوريا
تمثل القبيلة في شرقي سوريا واقعا لا يمكن القفز فوقه في أي محاولة لفهم المشهد السوري بسبب امتدادها التاريخي، وبسبب تمثيلها بؤرة اهتمام لكثير من القوى الفاعلة في الشأن السوري في الحاضر وما يمكن أن تساهم به في أي سيناريو للمستقبل في سوريا.
وهي تمثل أيضا بنية تتعدد سبل مقاربتها السوسيولوجية والأنثربولوجية والسياسية، والتاريخية الأمر الذي يحيل أي مقاربة لها إلى إشكالية، بما تعنيه الإشكالية من بنية متداخلة العلاقات يخلق حل أي مشكلة فيها مشكلات جديدة. هذا فضلا عن صعوبة الاتفاق على تعريف جامع مانع لها، وهو ما يفرض تناولها من جوانب مختلفة، من أجل وصفها، وتحليل بنيتها وأدوارها في السياقات المختلفة.
وكأي بنية أخرى، خضعت القبيلة لتحولات عبر تاريخها، وهي تحولات أحدثت تغيّرات في بنيتها انعكست -بحكم الضرورة على أدوارها. وأصبحت عملية مقاربة واقعها واستشراف مستقبلها بحاجة إلى أبحاث ميدانية، لا تقتصر على الصورة النمطية للقبيلة التي طالما شكلت عائقًا أمام الفهم الأمس رحما بالواقع لبنيتها وأدوارها.
يحاول هذا البحث أن يقارب تحولا راهنا في بنية القبيلة هو التحول الذي أحدثته ظاهرة هجرة القبيلة إلى خارج سورية، ولما كانت هذه الهجرة لم تحط رحالها في بقعة واحدة، فإن اتخاذ أكثر من أنموذج كحالات متعينة كفيل بكشف أبرز التحولات في بنيتها وأدوارها.
دراسات سابقة حول الموضوع
تنوعت الدراسات التي حاولت مقاربة واقع القبيلة في شرقي سوريا، وتنوعت كذلك نتائجها، فقد خلصت إحداها إلى أن سياسات السلطات السورية المتعاقبة قد نجحت في تفكيك البنية العشائرية، ومنعها من الاضطلاع بأي دور في التوازن الاجتماعي، وأن انحسار سلطة الدولة عن مناطق العشائر قد جعلها تتغلق على نفسها، وتعيد إنتاج هويات فرعية ضمن العشيرة تحمل سمات العصبية القبلية نفسها على مستوى ميكروي. وإن كان هذا التفكيك لا يعني غيابًا كاملا للرموز العشائرية في التأثير في سلوك أفراد العشائر ومواقفهم وهو يؤكد بما أحدثه من انكفاء إلى بنى عشائرية أضيق رسوخ الانتماء العشائري والنزعات العشائرية في نفوس الأفراد من أبناء العشائر.
وتميزت الدراسة باتساع المجتمع الذي قاربته، حيث شملت المقابلات والاستبانات أفراد عشائر متوزعين داخل منطقة القبائل في دير الزور وفي الشمال السوري وفي تركيا. ولكنها افتقرت إلى استنتاجات محددة مشتقة من الواقع الذي قاربته باعتمادها طريقة وصفية أكثر منها تحليلية، وهو ما جعل استخلاص الاستنتاجات شبه غائب عنها. وهي ذات نفع في فهم التحولات التي أصابت البنية القبلية خلال الثورة، وهي تحولات لا يمكن فهم واقع القبيلة المهاجرة دون القبض على أسبابها ونتائجها.
وخلصت دراسة أخرى إلى أن النزعة الفردية ليست غائبة عن سلوك الفرد القبلي، وأنها ليست مهيمنا عليها بحكم التراتب الهرمي لبنية القبيلة. وقد غلب على الدراسة المنهج الوصفي المفتقر إلى التحليل وشابها قصور في تحديد أصناف القبائل الحالية. وقد قدمت الدراسة على الرغم من جوانب القصور فيها، إضاءة مهمة على البعد السياسي للظاهرة القبلية، وهو ما يمكن أن يساعد في فهم التحول الحالي في هذا البعد بفهم طبيعته السابقة.
واستنتج باحث آخر أن علاقة نفعية ربطت النظام السوري بالقبائل، وهي علاقة بدأت مؤشرات انهيارها قبل الثورة، بفعل إهمال النظام للتنمية في مناطق القبائل، وبسبب القحط الذي أصاب تلك المناطق وأفقر نسبة كبيرة من أهلها. وقد تنوعت مشاركات القبائل في الثورة السورية، من مواجهة مسلحة للنظام إلى تحالف مع قوات النظام والمهم أن الباحث يرى أن القبائل شريك أساسي في حاضر سوريا وفي أي حل سياسي قادم فيها.
وعلى الرغم من أهمية تلك الدراسة، فإنها عانت نقصا تمثل في إغفال الديناميات الحاكمة للعلاقات ضمن القبيلة وبين القبائل، وما تحدثه هذه الديناميات من أثر في علاقتها بالنظام السياسي. وتقدم الدراسة تصورًا مفيدًا من حيث كونها تحلل الأسباب الموضوعية لتنوع مواقف القبائل خلال الثورة السورية، عبر فهم تاريخ علاقتها بالنظام السياسي.
اللجوء وربط ماضي القبيلة بحاضرها
يقدم البحث الحالي إضافة جديدة لم تتناولها الدراسات السابقة، تتمثل في بحث التحولات التي طرأت على بنية القبيلة وأدوارها بعد لجوء القبائل إلى خارج موطنها الأصلي، وهي تحاول وصف التحولات وتحليلها عبر ربط ماضيها بحاضرها، مع تلافي الفجوات التي لوحظت في الدراسات السابقة، وهي فجوات معرفية ناتجة إما من نقص المعرفة الدقيقة ببنية القبيلة، وإما من الاقتصار على الجانب الوصفي الظاهرة القبيلة في مراحل معينة من تاريخها، وإما من الاتكاء على صورة نمطية لظاهرة القبيلة مستمدة من تصورات مأخوذة من سياق مغاير.
ومما سبق. نستنتج أن مشكلة البحث تتمثل في التحولات التي أصابت بنية القبيلة وأداورها في شرق سورية، بعد لجوء كثير من أبنائها إلى خارج مدنهم وقراهم بسبب الحرب في سوريا، وهي مشكلة تنطلق من فرضية حتمية الأثر الذي أحدثته هذه الهجرة في بنية القبيلة، وما يلزم عن ذلك من تغير في أدوراها ويهدف البحث إلى تحديد الملامح الأساسية للقبيلة المهاجرة، وسبر غور التحولات التي عانتها بنية القبيلة وأدوارها في واقعها الجديد في مجتمع الهجرة.
وتكمن أهمية البحث في كشف واقع القبيلة اللاجئة الذي يمثل فهمه تحديا جديدا، لم تتعرض له الأبحاث التي اهتمت ببنية القبيلة في شرقي سوريا وأدوارها، وما يمكن أن يساهم فيه كشف هذا الواقع من تحديد أفضل الأدوات للتعاطي مع واقع القبيلة الحالي واستثمارها الاستثمار الأمثل في السيناريوهات المستقبلية للحلول القادمة للقضية السورية.