القبور المطرودة.. ووصايا العار

2021.10.02 | 06:28 دمشق

1603272940.jpg
+A
حجم الخط
-A

لم تتوقف المسنّة السورية عن ترديد وصيتها لأبنائها أن يدفنوا جثمانها في الشام إن استطاعوا، أو أن يعيدوها معهم إن كتب الله لهم العودة ذات يوم مهما كان بعيداً فلها هناك في مقبرة القرية أهل وأحباء، ولذا كان موتها أقسى من الموت في أي مكان في الوطن فبدا لهم موتاً مؤقتاً ريثما تحين ساعة الرجوع من دون خوف، وحتى الذي أراد أن ينفذ الوصية تراجع بعد أن روى له كثيرون حكايات عن الموتى العائدين بنعوش طائرة كيف تم التنكيل بهم في مطار دمشق، وكيف كان على النعش أن ينتظر مهاناً في طريقه إلى القبر.

تأتي الصور القادمة من حضن الوطن لتقول بقوة لمن يروجون للأمان الزائف أنتم كاذبون فلا تصدق أنهم يريدون عودتك، لا تصدق أن أحداً هنا لا يريد الهروب من التوحش والجوع، واليوم يتم تداول فيديو يشي بالحقيقة التي تقول أن لا حق هنا لك بمتر واحد للحياة لأنك من الطائفة التي خرجت على السلطة القاهرة.. فكيف سيكون لك الحق بمتر تدفن فيه؟.

الفيديو الذي صورته امرأة موالية في منطقة مزة 68 يحكي كيف يتم طردها من بيتها لأنها اشتكت على جارها الضابط فهو الأحق بالحياة وعليها أن تسكت على تسلطه وسرقته لحقها، ويصور لحظة هجوم امرأة عليها مطالبة بدفنها وهي على قيد الحياة صارخة (أنا بنت الـ 86) وكأن هذا السرطان الذي زرعه حافظ الأسد في الثمانينات مكاناً مقدساً أو مثل حي المهاجرين والميدان حيث تنتشر حكايات الدمشقيين في كل زقاق.

ليس هناك إلا بعض المقابر المجانية في الأرياف والضواحي، والجثث مكلفة وخيارات البحث عن مكان للدفن ليست ترفاً متاحاً

قبل ذلك بأيام انفجرت قنبلة أمام القصر العدلي أثناء مشاجرة بين محامٍ وزوج أخته، ورمى أحدهم قنبلة على بيت أهله، وآخر قتل أخيه إثر خلاف عائلي، وزوح خنق زوجته بالغاز.. ثمة جنون مستعر في بلاد الأمان، وشهية مفتوحة على القتل.

بالمقابل ليس هناك إلا بعض المقابر المجانية في الأرياف والضواحي، والجثث مكلفة وخيارات البحث عن مكان للدفن ليست ترفاً متاحاً، وحتى أولئك الذين يموتون على مهل ربما يضطر ذووهم إلى دفنهم بعيداً، وبعض مقابر دمشق المزدحمة بات القبر بطابقين، ولهؤلاء سماسرة وباعة فالفساد الطاغي وصل إلى القبور والموتى.

هناك في وطن البطاقة الذكية والتموين والإعاشة زمن الأسد الكبير لا مكان إلا لمن لديه السلاح والمال لذلك كان على البقية أن يخرجوا بكل ما بقي منهم إلى حيث أرض الله الواسعة، ومنهم من ينتظر أن يجد وطناً لا يحتاج إلى مهاجر اقتصادي بل مجرد إنسان يطلب الحياة، وطن لا يتم تذكيره فيه أنه فائض وضعيف ومكروه، وعبء على لقمة عيشه.

وصايا الأمهات الغريبات ليست سوى وصمة عار في جبين من رموا أرواحهن خارح البلاد، وكذلك أدعية من بقين يتنظرن عودة أبنائهن من أوطان الهجرة واللجوء ثم قتلهن الشوق واليأس

مات كثيرون في الغربة حالمين بالعودة في أي حال هم عليه أحياء كانوا أم أمواتا، وبعضهم كان يمنّي النفس ببضعة أيام يجول فيها على قبور من سبقوه من أهل وأحباء ماتوا في غيابه القسري، وآخرون ارتضوا العودة وما لبثوا أن ماتوا نادمين لأنهم انكسروا أمام حنينهم، ولم يجدوا هناك وطنهم الذي حملوه في قلوبهم وعقولهم لحظة الخروج.. هناك وطن جديد دون ذكرياتهم فقد أكله الغرباء واللصوص.

وصايا الأمهات الغريبات ليست سوى وصمة عار في جبين من رموا أرواحهن خارح البلاد، وكذلك أدعية من بقين يتنظرن عودة أبنائهن من أوطان الهجرة واللجوء ثم قتلهن الشوق واليأس.

ثمة عار أشد وطأة يحمله كل من خذلهن.. العالم والأشقاء والذين يسمون أنفسهم أخوة الدين والتاريخ، وأولئك الذين يقيمون في المنافي حالمين بوراثة سلطة الدم والخراب، وحاملي السلاح المأجور.. ثمة عار جماعي لكل من اغتال حلم قبر امرأة سورية في وطنها.

كلمات مفتاحية