أصبحت الصور القادمة من سوريا التي نشرتها الوسائل الإعلامية الإخبارية طوال العقد الماضي تصيب المرء بتبلد في الإحساس والمشاعر بسبب شدة تكرارها، ولتوثيقها مجريات الحرب في سوريا، ضمن أطر الموت والدمار والموجات التي لا تنتهي من اللاجئين.
وفي صورة مغايرة لهذا، نجد الفنانين السوريين وقد ردوا على ذلك عبر ابتداع أعمال متنوعة بشكل استثنائي، وغنية من حيث جماليتها، بل إنها كانت جميلة في كثير من الأحيان، وذلك ما نستشفه من خلال مجموعة جديدة عرضت في معرض في فني أقامه معهد الشرق الأوسط تحت عنوان: "في هذه الليلة الليلاء حالكة السواد: الفن السوري بعد الثورة"، ويعتبر هذا أول معرض مهم يقام في واشنطن ويسلط الضوء على الفن المعاصر الذي قدمه سوريون، كونه يقدم 14 فناناً، نصفهم نساء، ومعظمهم لم يزر واشنطن من قبل، إلا أن جميعهم يعيش في المنفى، سواء في الولايات المتحدة، أو أوروبا، أو في أي مكان آخر من العالم العربي، ومعظمهم غادر سوريا بعد اندلاع الثورة التي بدأت في آذار من عام 2011، بالرغم من أن قلة منهم كانوا يعيشون خارج سوريا بالأصل.
إن الثورة وما تلاها شهدت "شيئاً من ارتفاع في وتيرة الإبداع" بحسب ما تراه القائمة على أمور هذا المعرض، واسمها ميمنة فرحات، التي أعربت عن ذلك في بث مباشر للوقائع التي سبقت افتتاح المعرض، حيث قالت: "كان هنالك شيء من التحرر، وأعتقد أن الفنانين -بوجودهم في المنفى- سمحوا لأنفسهم بأن يجربوا بالفعل".
وتظهر موضوعات و"ثيمات" النزوح والهجرة لتصبح الخط الناظم الذي يربط بين العديد من الأعمال، ومن بين أكثر الأعمال وضوحاً ومباشرة بشأن هذه الثيمة، نجد مجموعة الفنانة أسماء عمادي التي حملت العنوان: (عمود الملح)، والذي يتألف من حقيبة مدرسية صغيرة للأطفال، لونها زهري، مع لعبة دب وضعت فوق ما وصفه عنوان العمل بوزن الطفل على الملح. وفي الوقت الذي بدا فيه هذا العمل في بداية الأمر مجرد مجموعة بسيطة من الأشياء التي تستخدم بصورة يومية، نجد أنه يشير بشكل مؤثر إلى أزمة اللاجئين وتأثير ذلك في النساء والأطفال على وجه الخصوص.
وفي اجتماع عقد على الشابكة أخيراً لأعضاء هذا المعرض، ذكرت الفنانة التي أجرت مقابلات مع سوريين في الولايات المتحدة وكندا وسألتهم عن تجاربهم، بأن هذه المجموعة مستوحاة من فكرة: "أن ننظر إلى الوراء ونتحول إلى عمود من الملح، وهذا ما حدث لنا نحن اللاجئين... إذ لدينا هذا الدافع لننظر إلى الوراء، بالرغم من أننا نستشعر خطورة هذا الفعل".
وقد عرضت أيضاً أربعة أعمال للفنان محمد حافظ الذي درس وعمل في مجال الهندسة المعمارية، إلا أن أعماله تقدم حالات لإعادة تشكيل البيوت ومشاهد من الشوارع بصورة واقعية عبر مجسمات مصغرة ثلاثية الأبعاد وضعت ضمن حقائب سفر مفتوحة، فبدت كمجسمات لنوافذ تطل على تلك العوالم. وبعض تلك القطع التي حملت اسم: (أمتعة) مستوحاة من حياة لاجئين معينين توجهوا نحو الولايات المتحدة وهناك التقوا بالفنان محمد حافظ وسردوا له قصصهم.
فقد استلهم الفنان عمل: (أيمن وغنى) الذي نشاهد فيه غرفة جلوس أنيقة ذات لون أزرق فاتح، تحتوي على مجموعة كاملة من الطاولات الصغيرة الصينية المخصصة للقهوة، من أسرة أتت من حمص بعدما تركت بيتها على حين غرة عندما علم أفرادها بأن الجيش بات على أعتاب قريتهم.
وعن ذلك يخبرنا محمد حافظ فيقول: "قررت أن أعمل نموذجاً مصغراً لغرفة الجلوس لأنهم في اليوم الذي هربوا فيه، كانوا في غرفة الجلوس يتناولون طعام الإفطار، فتركوا طعامهم على المائدة، ظناً منهم أنهم سيعودون إلى دارهم في غضون ساعات... ولكن مضت ثماني أو تسع سنوات على ذلك".
في حين تنضح الأعمال الأخرى بثيمة الهجرة وتتصارع معها بشكل تجريدي، مثل عمل الفنان خالد بركة الذي يحمل اسم: (لم أنم منذ قرون)، والذي يبدو للوهلة الأولى مجرد خليط فوضوي من الخطوط السوداء الداكنة فوق خلفية بيضاء، لكنه يمثل في واقع الأمر خطوطاً مطبوعة بشكل رقمي لسمات دخول وطبعات خروج على جواز سفر، طبع بعضها فوق بعض، بالإضافة إلى الطلبات المرفوضة لزيارة العديد من الدول، وهكذا قام هذا الفنان بجمع تلك الأشياء كلها ليعبر بشكل بارد عن حجم الإهانة التي يواجهها السوريون في الشتات بسبب البيروقراطية.
ثم إن هذه المجموعة المتنوعة من الأعمال التي عرضت في هذا المعرض، ويأتي تنوعها من حيث الوسائل المستخدمة والشكل والمحتوى والأسلوب، تسلط الضوء على الثقافة البصرية الغنية التي تتمتع بها سوريا، ومدى تأثر الفنانين بذلك. إذ يدمج عملان استخدمت فيهما وسائل مختلطة وقدمهما الفنان بادي دلول بين الأساليب المستخدمة في اللوحات الخشبية المعتقة المطلية بشكل دقيق، والتي تعيد إلى الأذهان تلك التصميمات الخاصة بالبلاط أو الترصيع وفقاً للطراز الإسلامي التقليدي. أما في الصور الضوئية التي قدمها أسامة السيد للتصميم الداخلي الخاص بخيم اللاجئين في مخيمات أقيمت لهم في تركيا، فنرى السجاد والمنسوجات المنقوشة وقد فرشت لتغطي الأرضيات، ولتصور كيف قام السوريون بتزيين ما يحيط بهم حتى في ظل أحلك الظروف وأقساها.
وبشأن ذلك تخبرنا السيدة ميمنة فتقول: "أردت أن أعرض لا أن أجمل الصدمة واليأس والخراب"، لأن هدفها هو: "التركيز على مدى جمال الأعمال وإلى أي مدى يهتم الفنانون السوريون بالنواحي الجمالية".
هذا وتتوافر صور رقمية للأعمال والتي تشمل الفيلم القصير الذي قدمه عمار البيك بعنوان: "حاضنة الشمس" على الشابكة عبر الموقع الإلكتروني لصالة العرض. غير أن المعرض الذي استمد عنوانه من أحد الأبيات الشعرية للشاعرة السورية الراحلة دعد حداد، لا بد من زيارته بصورة شخصية نظراً للطبيعة الحسية التي تتميز بها معظم الأعمال الفنية فيه، فضلاً عن استخدام مواد متنوعة في العديد من تلك الأعمال.
فمثلاً، في العمل الذي قدمه الفنان كيفورك مراد، والذي يحمل اسم: (مدينة المزار) نجد رسومات ذات طراز قوطي للعناصر المعمارية وقد أدخلت على طبقات من القماش البارزة والتي تجمع بينها خيوط تربط بين الفضاءات الإيجابية والسلبية المتداخلة. أما العمل الفني الذي قدمته الفنانة لارا حداد والذي يحمل اسم: (تطهير) فقد طبع على بطانية صوفية رقيقة من النوع الذي توزعه منظمات الإغاثة في مخيمات اللاجئين، في حين يدمج العملان اللذان قدمتهما الفنانة عروبة ديب: (نزوح 1) و (نزوح 2) بين الأقمشة المنقوشة والقرطاسية، إلى جانب الرمل، ليضيف ملمساً وألواناً نابضة بالحياة للوحات الكولاج التي قدمتها هذه الفنانة والتي تصور عائلات تحمل ممتلكاتها وتسير بها وسط الصحراء.
في الذكرى العاشرة لقيام الثورة السورية، ينقل المعرض الذي يحمل اسم: "في هذه الليلة الليلاء حالكة السواد" حجم الخسائر الكبيرة إلى جانب مدى انسجام الشعب السوري بشكل لافت للانتباه مع مجريات الأمور خلال العقد الماضي من الزمان، وذلك من منظور بعض الفنانين السوريين الذين يتصفون بأنهم الأكثر موهبة بين من تعود أصولهم إلى تلك البلاد.
المصدر: واشنطن بوست