تولى محمد شيمشك منصب "الوزير المفوض للخزانة والمالية" في الحكومة التركية الجديدة التي شكلها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عقب فوزه بولاية رئاسية على حساب مرشح المعارضة كمال كيلتشدار أوغلو في جولة الإعادة من الانتخابات الرئاسية التركية التي جرت في 28 من مايو/ أيار الماضي.
يُعرف محمد شيمشك، الذي شغل منصب وزير المالية بين عامي 2009-2015 ووزير الدولة المسؤول عن الاقتصاد بين 2015-2018، بإيمانه بالاستقلال المؤسساتي وانضباط الميزانية والإصلاحات الاقتصادية والسياسات التقليدية.
شكّل تعيين شمشيك ومن بعده حفيظة أركان كمحافظة جديدة للبنك المركزي إشارة إلى الأسواق والمستثمرين الأجانب بنهاية النموذج الاقتصادي غير التقليدي الذي تبناه الرئيس أردوغان والقائم على تشجيع الائتمان الرخيص لزيادة النمو الاقتصادي وخفض التضخم، إذ شكّل هذا النموذج القائم على فكرة أن الفائدة هي سبب ارتفاع التضخم انقلابا تماما على أفكار الاقتصاد التقليدي الذي ينظر إلى الفائدة على أنها إحدى أدوات السياسية النقدية التي تستخدمها البنوك المركزية لخفض التضخم، الأمر الذي تسبب بخروج كبير للاستثمارات الأجنبية من الأصول المالية التركية المتمثلة في سندات الدين الحكومي وأسهم البورصة، وتسببت في هبوط تاريخي في سعر صرف الليرة مقابل العملات الرئيسية.
أعلن الوزير الجديد في أول كلمة له بعد أن تسلم منصبه أن تركيا ستعود إلى الأساس العقلاني في الاقتصاد، الأمر الذي يعني تطبيع السياسة النقدية من خلال رفع سعر الفائدة الاسمية والعودة إلى نظام الصرف المرن
تشكل عملية استعادة ثقة المستثمرين الأجانب أحد أصعب المهام التي تواجه شيمشك في ولايته الجديدة، وخاصة مع وجود حالة من عدم اليقين والأسئلة التي تحتاج إلى إجابات سريعة وواضحة.
أعلن الوزير الجديد في أول كلمة له بعد أن تسلم منصبه أن تركيا ستعود إلى الأساس العقلاني في الاقتصاد، الأمر الذي يعني تطبيع السياسة النقدية من خلال رفع سعر الفائدة الاسمية والعودة إلى نظام الصرف المرن، والتوقف عن اتباع سياسة التدخل في أسواق الصرف من أبواب خلفية لقمع سعر الصرف ومنع الليرة التركية من الوصول إلى قيمتها العادلة لأسباب سياسية، والتي أوصلت الاحتياطي النقدي للبلاد إلى ما دون الصفر، بالإضافة إلى تشديد شروط الائتمان وإبطاء نمو الأجور بهدف خفض التضخم، وهذه الإجراءات تخالف أفكار أردوغان الاقتصادية والذي خلال فترة الانتخابات وفي خطاب النصر، أعطى رسالة واضحة لمواصلة سياسة الائتمان الرخيص والفائدة المنخفضة. وبالتالي في حالة الانتقال إلى السياسات التقليدية، هل سيتم التخلي عن سياسة الفائدة المنخفضة التي قال الرئيس إنها ستستمر؟ وإذا لم يتم التخلي عنها، فما هي وظيفة محمد شيمشك وفريقه؟
وحتى لو تمكن محمد شيمشك من إقناع الرئيس أردوغان برفع أسعار الفائدة فما الكلفة التي سيدفعها الاقتصاد التركي الذي ابتعد عن الأفكار الاقتصادية الكلاسيكية واستنفد موارده وفقد صدقيَّته من خلال التدخلات السياسية في القرارات الاقتصادية والمالية؟ وهل سيتمكن فريق الاقتصاد الجديد من إزالة علامات الاستفهام حول الصدقيَّة واستعادة الصدقيَّة المفقودة؟
تشكل الصدقيَّةُ والأهدافُ الافتصادية المتسقة بعضها مع بعض والابتعاد عن التناقضات أحدَ أهمّ الأمور التي يحتاج إليها الاقتصاد التركي في مرحلته الجديدة، فعلى سبيل المثال عند إطلاق ودائع الليرة المحمية قال حاكم المصرف المركزي التركي السابق شهاب أوغلو إننا ضربنا خمسة عصافير بحجر واحد: سعر الصرف سيتوازن، وسينخفض التضخم، وسيتم منع الدولرة، وسترتفع احتياطات البنك المركزي وستنخفض أسعار الفائدة".
اليوم تحولت وديعة الليرة المحمية إلى قنبلة موقوته تهدد القطاع المصرفي بالكامل بقيمة 120 مليار دولار بمتوسط فائدة تصل إلى 40% وسعر صرف ارتفع من 13.43 في يناير 2022 إلى 23.65 في وقت كتابة هذه السطور.
التضخم الذي كان من المتوقع أن ينخفض تماشياً مع الأهداف المحددة إلى 12.9 ٪ بنهاية عام 2022 وسيصل إلى 8.8٪ بحلول نهاية عام 2023، بلغ ذروته عند 83٪ العام الماضي، ليستقر عند 40٪ بحلول منتصف عام 2023 وسط تشكيك كبير بصدقية الأرقام الحكومية بشأن التضخم.
وبلغ عجز الحساب الجاري، الذي كان من المتوقع انخفاضه إلى 2.2٪ عام 2022، 5.34٪ في منتصف عام 2023.
انخفض صافي احتياطيات البنك المركزي، الذي كان من المتوقع أن يرتفع إلى -4.4 مليارات اعتبارًا من 26 مايو. يوضح هذا الرقم أن البنك المركزي يبيع أصوله من العملات الأجنبية من أجل الحفاظ على الضغط على سعر الصرف، ومن ثم الاحتياطيات والأموال المقترضة من قبل البنوك نفسها.
معدل الفائدة الذي كان من المتوقع أن ينخفض أصبح "غير مهم". إذ بلغت معدلات الفائدة على الإيداع 40٪.
من غير الواضح مقدار السلطة التي يمكن لمحمد شيمشك ممارستها، وخصوصا أنه في سبيل خفض التضخم سيتخذ قرارات غير شعبية قد يرفضها أردوغان الذي تنتظره انتخابات بلدية في الربيع المقبل
في الأيام التسعة الأولى بعد جولة الإعادة للانتخابات الرئاسية فقدت الليرة التركية 16% من قيمتها، السبب في ذلك هو مجموعة العقبات التي تواجه الوزير شيمشك في مهمته الجديدة المتمثلة في:
- انخفاض احتياطيات البنك المركزي إلى ما دون الصفر، الأمر الذي يهدد البلاد بأزمة في ميزان المدفوعات.
- وزير المالية الجديد على الرغم من كونه أكثر كفاءة بما لايقاس من سلفه، لكنه ليس ساحرا ولايمكنه القضاء على التشوهات الكبيرة في النظام المالي التركي في عضون أسابيع أو حتى أشهر.
- من غير الواضح مقدار السلطة التي يمكن لمحمد شيمشك ممارستها، وخصوصا أنه في سبيل خفض التضخم سيتخذ قرارات غير شعبية قد يرفضها أردوغان الذي تنتظره انتخابات بلدية في الربيع المقبل.
- معدلات الفائدة المرتفعة في الاقتصادات المتقدمة وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية والتي ستبقى عند الذروة لمدة عامين على الأقل، تجعل من عملية جذب الاستثمارات إلى الأسواق الناشئة مهمة شديدة التعقيد.
- على الرغم من فشل النموذج الاقتصادي السابق فإنه أفرز طبقة من المستفيدين من رجال الأعمال أصحاب السلطة وخاصة في مجال الاستثمار العقاري، وأن أي تطبيع في السياسة النقدية سيقف ضد مصالحهم.
تدفع تركيا ثمن الانقطاع عن اقتصاد السوق الحرّ خلال العامين الماضيين، وستدفع الثمن باهظا في سبيل العودة. ليس من السهل فكّ العقدة الاقتصادية الحالية وستكون العملية بطيئة. فمثلما تمّ الوصول إلى هذه النقطة ببطء، سيكون الخروج بطيئا بالطبع، فالعودة إلى الأساس العقلاني في الاقتصاد بعد كل ما جرى في حد ذاته مشكلة كبيرة.