ساد بين السوريين ولفترة طويلة استخدام مصطلح "سوريا المفيدة" لشرح تكتيك النظام الأسدي تجاه المناطق التي خسرها أو حافظ عليها، في سياق المواجهات المسلحة بين جيشه وميليشياته وبين الفصائل المسلحة الثائرة ضده.
لكن تحولات الحرب الميدانية كشفت عدم دقة المصطلح من الناحية العسكرية المرتبطة بالجغرافية، فالنظام ظل وحتى اللحظة يروج بأنه مسؤول عن كل الأراضي السورية، ليس تلك التي خرجت عن سيطرته فقط، بل حتى التي خسرتها البلاد في مراحل سابقة، كالجولان ولواء إسكندرونة!
في المقابل وبالنظر إلى علاقته مع السوريين أنفسهم أي سكان البلاد التي يتحكم بها ويحوز ثرواتها ويقودها بالحديد والنار، وإن لم نقل إنه غير مهتم، سنجد أن همته فاترة في السعي نحو إعادتهم إلى مناطقهم التي صارت تحت سيطرته، وقد يرى البعض بأن في الأمر عقوبة إضافية يفرضها الأسد على الشعب الذي "خذله"، لكن كل المؤشرات تؤكد بأنه يفضل وبعد ما جرى خلال السنوات الماضية أن يحكم بلاداً فارغة أو بعدد سكان قليل، على أن يعود النازحون واللاجئون إلى بيوتهم.
في التفاصيل أن الرجل جامل العابرين بالقول إن "الحارة نورت"، ودعاهما لفنجان قهوة جرياً على عادة الشوام، لكن دعوته لم تلق سوى ابتسامة باهتة، أرسلها رأس النظام وزوجته قبل أن تصور الكاميرا ظهريهما بينما كان الرجل يدعو لرئيسه بطول البقاء
ووفق هذا ستكون دلالات المصطلح أعلاه مرتبطة بالسوريين المفيدين أولاً وأخيراً، ولكن هل ثمة استراتيجية معتمدة أو معيارية تحدد من هو المفيد من غير المفيد في سياق المعادلة الأسدية؟
يتداول سوريون فيديو قصير جداً صوره أحد سكان دمشق القديمة من على شباك بيته العالي، حين مر بشار الأسد وزوجته أمامه، وفي التفاصيل أن الرجل جامل العابرين بالقول إن "الحارة نورت"، ودعاهما لفنجان قهوة جرياً على عادة الشوام، لكن دعوته لم تلق سوى ابتسامة باهتة، أرسلها رأس النظام وزوجته قبل أن تصور الكاميرا ظهريهما بينما كان الرجل يدعو لرئيسه بطول البقاء.
اللافت في المشهد السريع أن الزائرين يمران وحدهما في الشارع، ولولا صوت من صور الفيديو لظن المشاهد أن السكان اختفوا جميعهم، لكن الشيء الذي يستحق أن يتوقف المرء عنده إنما هو ردة فعل الديكتاتور وزوجته حيال دعوة الرجل لهما لشرب القهوة، فقد تجاهلاها، رغم أن مصادفة كهذه لا بد ستتحول إلى جزء من صورة يجتهد الرؤساء بتظهيرها في الإعلام الرسمي أو الشعبي أمام شعوبهم، وأيضاً أمام العالم كله. لكن في سوريا لا يحتاج الديكتاتور إلى التفاعل مع لقاء كهذا يحدث خارج التدبير والسيطرة، فـ"العفوية" التي كانت تظهرها المشاهد المصدرة من الإعلام الرسمي لا تعدو عن كونها مشاهد مدروسة تم الشغل عليها لجهة تحميلها رسالة ما توجه إلى جهة ما، دولة أخرى أو طائفة أو فئة مجتمعية، وكذلك ضمان ألا يفلت في السياق أي تفصيل غير محسوب ومدروس، الأمر الذي يقتضي بالضرورة القيام بدراسة عن الشخصيات التي سيلتقيها الرئيس أو زوجته أو ستظهر في المكان، وسيبتسمان معها أمام الكاميرات، إذ من غير المسموح أن يوجد في المكان ذاته أي شخص غير مرغوب به.
وقبل هذا وذاك، ظهور الأسد في الأمكنة العامة فرصة لا يجب أن يحصل عليها السوريون بشكل دائم، بل يجب أن تكون منحة يمنحهم إياها حين يريد، ووفق موقفه الشخصي من المكان وسكانه، فهو ذاته من يملي على فريقه الإعلامي رغباته، وهو لا يخضع في مسألة صورته أمام الآخرين لاستراتيجية المختصين، إلا عند الضرورات الترويجية كما حدث خلال حملتي الانتخابات المزعومتين في الأعوام 2014، 2021!
فراغ المكان من الآخرين الذي أظهرته اللقطة الطويلة لربما فتح الباب على أسئلة أخرى، من مثل البحث عن تفسير ما لغياب الناس عن شارعهم؟!
لم ير صناع الصورة العامة في رئاسة الجمهورية ضرراً من هذا الفيديو الصغير، فلم يمنعوا نشره، وتركوه يتداول في شبكات التواصل الاجتماعي، كما هو، لظنهم بأن منح البعض فرصة نشر صور الرئيس من موقع المواطن الصحفي يساهم في ترسيخ استتباب الأمر له، لكن فراغ المكان من الآخرين الذي أظهرته اللقطة الطويلة لربما فتح الباب على أسئلة أخرى، من مثل البحث عن تفسير ما لغياب الناس عن شارعهم؟!
قبل بضعة أشهر، وعلى هامش الزلزال الكبير الذي أصاب غير مكان في سوريا وتركيا، كرر أحد الزملاء الإعلاميين سؤالاً عن غياب الرئيس عن المشهد، رغم هول الكارثة التي أصابت مناطق تعتبر مؤيدة لنظامه، لكن لم يطل الوقت حتى جاء الجواب من حلب حيث ظهر الأسد برفقة كامل عائلته، يزور بعض المناطق المتهدمة وسط تدابير صارمة، بعد أن قننت الزيارة وحددت مساراتها!
كانت هذه أولى زيارات رئيس نظام البراميل إلى المدينة التي دمرتها طائراته وحليفه الروسي، وكان من الضروري ليس بقاء تفاصيلها ضمن الحدود المرسومة لها فقط، بل أن يتم جلب مشاركين مفيدين يؤدون أدوارهم تكليفاً أو تطوعاً وبما يرضي الرئيس، وهذا ما حدث فعلياً!
استخلاص النتيجة من المشاهدات السابقة لا يبدو صعباً، فالنظام لا يمنع فعلياً أحداً من الرحيل عن مناطقه، بل إنه يرحب بذلك، وحتى أولئك الذين ساندوه طوال السنوات السابقة، وحين وجدوا أن تردي الأحوال بعد "نهاية الحرب" بات يهدد معيشتهم حزموا حقائبهم وغادروا إلى حيث استطاعوا سبيلا، لم يمانع رحيلهم رغم خدماتهم المديدة له.
لكنه لن يسمح للآخرين بالعودة، حتى وإن كان هذا الأمر أولى الخطوات التي يطلبها منه المطبعون العرب ومن خلفهم العالم بأسره.