ليس من عادتي أن أعلق في مقالاتي على ما يردني من رسائل عبر وسائل التواصل الاجتماعي وخصوصاً إن كانت ذات حمولة ضعيفة اللباقة، وحيث تكون بعيدة عن الهمّ العام الذي لطالما سعيت لعكسه في كتاباتي. لكنني هذه المرة آثرت أن أشارك "معاناتي" التي أثارتها كلمات وصلتني أخيراً، وليس للمرة الأولى بالتأكيد، ولكنني أشعر بأنه صار من اللازم أن نُخرج القيح المتخثّر في العقول.
في هذه الرسالة ـ القصيرة ولله الحمد ـ محاولة غير مقصودة حتماً من كاتبها للتطرق إلى مسائل إشكالية تتكرر بشكل متفاقم، ككتل من لهب، في الحوار المجتمعي والسياسي العربي خصوصاً. ومن مميزات هذه الرسائل عموماً أن المرسل لا علاقة له بالمرسل إليه لا من قريب ولا من بعيد. وبالتالي، فهو غير منتمٍ إلى أعضاء فضائه الافتراضي. إذاً، تغيب عنه صفة الصديق الطبيعي أو الافتراضي. بل يكتسب لقب العنصر "الخارجي" الذي يحب أن يدلي بدلوه المثقوب بحثاً عن تحريض ردك عليه، لعلّك تقع في فخ الفضاء الافتراضي وبالتالي تتلوّث بمستنقع اللغة الشتائمية إياها والتي تبتعد، في الشكل وفي المضمون، عن العقلانية، وحيث تقترب من مهاترات الشوارع. الخلاف الوحيد بينهما هو في تأثير أمضى للنشر في هذه الوسائل من مجرد كلمات عابرة يتلفّظ بها مراهقون.
صاحبنا يعتب عليّ لاهتمامي بحرية الآخرين بعيداً عمن يعتقد بأنهم الأولى بهذا الاهتمام وبهذه الحرية. وفي هذا العتاب منبت للعنصرية القابلة للتضخم كالسرطان
أخانا الذي هرف بتعليقه فنانٌ كما يبدو عليه من إلقاء نظرة خاطفة على صفحته الافتراضية. وبالتالي، فهو يكسب نظرياً نقطة إيجابية في انتمائه إلى حقل الفن التشكيلي الذي يعتمد أساساً، إلى جانب الموهبة، على حساسية وشفافية تسمحان لمتبنيهما في أن يتمكن من التمايز. وهو يقول باقتضاب كما سيرد الآن، بعد أن مارست حقي الرقابي في اقتطاع عبارات لا تليق به: "لقد لاحظت بأنك تهتم بحرية الأوكرانيين والإيرانيين، ولديك مشاعر معادية لبوتين. أنت انتقائي للغاية لأنك تتجاهل معاناة الفلسطينيين يومياً على أيدي الإسرائيليين بما في ذلك العديد من الأطفال. إن الحق في الحياة أهم من الحق في إظهار الشعر". نص قصيرٌ، ولكنه يفتح أبوباً واسعة على محاور أساسية تطرّق إليها الفنان/ الإنسان الذي اختار أن يتوجه لي بلغة شيكسبير محاولاً بفشل إظهار فصاحته الأنجلوسكسونية.
وبعيداً عن الشكل، وسعياً مني للخوض في المضمون، فصاحبنا يعتب عليّ لاهتمامي بحرية الآخرين بعيداً عمن يعتقد بأنهم الأولى بهذا الاهتمام وبهذه الحرية. وفي هذا العتاب منبت للعنصرية القابلة للتضخم كالسرطان. ففيه تمييز في المعاناة وتهميش لمعاناة شعب مقابل معاناة شعب آخر. إن هذا الموقف هو القاعدة التي يعتمدها كل منتهك للحق الفلسطيني حينما يتساءل عن عدم الاهتمام بشعب الروهينغا مثلاً، كما كل ساكت عن هذا الانتهاك حينما يتساءل عن إهمال شعب اليمن مثلاً. أما آن للمهتمين بالحق الإنساني بأن يكونوا متبنين لكل الحقوق في الحرية والكرامة والعدالة؟ هل من الضروري عليهم أن يضعوا حقوق من يصنفونهم الأولى أمام حقوق الآخرين ليخسروا كل مصداقيتهم تجاه كل الحقوق بترتيباتهم التفاضلية؟
من ثم، "يتهمني" الفنان بحمل مشاعر "معادية لبوتين". وهو في ذلك يعتبر أن هذا موقف أخلاقي غير عادل بحق من مأسس للفساد في بلاده إلى جانب القمع وقتل المعارضين أو زجّهم في السجون، كما ونشر الفوضى الخلاقة لدى كل جيرانه، وأخيراً وليس آخراً، أسهم في إبادة مئات الآلاف من المدنيين في الشيشان وفي جورجيا وفي سوريا. بوتين هذا يُعجب بافلوفيي المواقف وانتقائيي القضايا من بسطاء العالم الثالث لمجرد وقوفه أمام الغرب. وأخيراً، يتناسى فناننا العزيز التفاهم القديم والمتجدّد بين بوتين والقادة الإسرائيليين في الحلّ وفي الترحال.
كما أنني، وحسب لائحة الاتهامات المختصرة، أتجاهل معاناة الفلسطينيين تجاه الاحتلال الإسرائيلي والتنكيل المستمر بهم شيباً وشباباً، نساءً وأطفالاً. والذي يمكن استنتاجه من هذا الاتهام المجحف والمجاني، ولكن الذي يجذب الغوغاء ويحرّضهم، هو أميّة صاحبه المعرفية والثقافية، وليست بالضرورة اللغوية، والتي تمنع عنه قراءة الأوراق البحثية كما المقالات السياسية التي لم أتوقف يوماً عن نشرها بخصوص الملف الفلسطيني. كما يبدو بأن وسائل التواصل صارت مرجعية لمن لا مرجعية لهم بحيث يحكمون من خلال تعليقاتها أو ما ينشر فيها على أنه المقياس الوحيد للتعرّف إلى المواقف المبدئية لمن نود مهاجمته والإمساك ضدّه بطرف ذيل التخوين المحبوب ثقافةً لدى كثير من الناس.
اعتقد الفنان التشكيلي بأن الاحتجاجات الثورية في إيران محصورة فقط بخصلة شعر فتاة، ولا علاقة لها بمطلب عام أوسع وأكثر احتواءً يتعلق أساساً بتحصيل الحقوق والحريات والعدالة
وأخيراً، يختم الفنان عُجالته بدرس "أخلاقي" ولا أعمق معتبراً بأن الحق في الحياة للفلسطينيين يبقى أهم من الحق في إظهار الإيرانيات لشعورهن. وهنا يعود إلى التركيز على "إهمالي" لمقتل الفلسطينيين على أيدي الاحتلال الإسرائيلي، مقابل تركيزي على التنديد بقمع آيات الله لمطالب الشعب الإيراني المحقة بالحرية وبالكرامة. وهنا تظهر الطامة الكبرى، التي إن دلت فهي تدل على جهلٍ مستحكم في طريقة التفكير بأحداث العالم. فإن اعتقد الفنان التشكيلي بأن الاحتجاجات الثورية في إيران محصورة فقط بخصلة شعر فتاة، ولا علاقة لها بمطلب عام أوسع وأكثر احتواءً يتعلق أساساً بتحصيل الحقوق والحريات والعدالة يُجمع عليه الجيل الإيراني الجديد، فالعوض بسلامتكم.