لا يخفى على أحد أن ظاهرة العنف أصبحت أكثر انتشاراً في وسائل الإعلام اليومية مع ما تشهده المنطقة العربية من أحداث ساخنة، خاصة المنطقة السورية التي ما تزال تعاني من آثار الحرب العنيفة.
ومع أن هذه الظاهرة تنتشر عالمياً في ألعاب الفيديو ووسائل التواصل الاجتماعي والأفلام السينمائية، لكنها أصبحت واضحة في السنوات الأخيرة في الأعمال الدرامية السورية ذات الصبغة البوليسية التي يُفترض أن تكون أعمالاً فنية موجّهة للأسرة، وعليه يجب أن تبتعد ما أمكن عن العنف اللفظي والجسدي الذي يتم استخدامه كمادة تسويقية بغرض التربح المادي والتشويق والإثارة، ولأغراض أخرى غالباً ما تشرف عليها أجهزة المخابرات السورية، بهدف ترسيخ مفاهيم وقيم تتّصل بعصابات ومافيات وقضايا فساد مؤسسات الدولة وغيرها.
كذلك تقوم تلك الدراما بغرس مفهوم العنف داخل المجتمع وتعمل على تطبيعه بطريقة ممنهجة، في الوقت الذي ينتظر فيه المشاهد أعمالاً فنية يُفترض أنّها موجّهة إلى مختلف أفراد المجتمع السوري بمن فيهم الأطفال والمراهقين، دون تحديد الفئة العمرية للمشاهدة؛ مثل مسلسلات: كسر عضم، الهيبة، على صفيح ساخن، مقابلة مع السيد آدم...
اعتاد فريق من الجمهور على رؤية هذه الصور لدرجة أنهم فقدوا الحساسيّة والتعاطف، أمام مشاهد العنف التي يُفترض أنّها تخلق صدمة نفسية، مهما كان تأثير العنف على مشاهديه. هناك العديد من الأسباب التي تجعل صانعي الدراما السورية يتجّهون بقوة نحو هذا الغرض الذي يوشك أن يصبح ثيمة الأعمال الدرامية السورية الحديثة، وكأنها من انعكاسات الحرب السورية على المجتمع، ما أدى إلى استباحة حرمة الإنسانية التي تكاد أن تكون مفقودة في بلد تسيطر عليه أجهزة قمعية ويتفشى الفساد في مؤسّساتها، وجعلت منه بيئة خصبة لكافة أشكال العنف بحجة أن الدراما تعكس الواقع.
التعاطف مع ظاهرة "البطل الشبّيح"
ربما يمكن لتصوير العنف في الأعمال الدرامية الأخيرة الذي يُنظر إليه على أنه يحمل مغزى معيناً، ومؤثر ومثير للتفكير؛ أن يعزز التعاطف مع الضحايا والإعجاب بأعمال الشجاعة والجمال الأخلاقي في مواجهة العنف، أو التأمل الذاتي فيما يتعلق بدوافع العنف. إلا أن طريقة طرح العنف في الدراما السورية راح يأخذ منحى خطيراً، مثل ما حدث مع مسلسل الهيبة، والذي يمجّد فيه البطل "جبل" ظاهرة التشبيح، ويمثل في حالة من الدفاع عن القبيلة في جبال لبنان وعن ظاهرة البلطجة وسلب الحق بقوة السلاح، وتغييب لمفهوم الدولة الحديثة، دولة المؤسسات والقوانين التي تسود المجتمع وتحمي الفرد.
إن مسلسل الهيبة يرسّخ بحسب نظرية "الغرس الثقافي" مفهوم التشبيح والخروج من إطار مؤسسة الدولة وأجهزتها الأمنية، ما يجعل وجود هذه النماذج في الواقع السوري مبرراً، ويسهم في تطبيع العنف وجعله أمراً طبيعياً وواقعاً وغير مستهجن، فيغدو البطل "الشبّيح" هو القدوة التي يحتذي بها المشاهد، من حمل لسلاح غير مرخّص وتجارة الممنوعات والتمرد على أجهزة الدولة الأمنية ومخالفة القوانين.
ةمن خلال نظرة سريعة للمقاطع الدعائية التي تستخدم للترويج للأعمال الدراميّة، نلاحظ أنّ المنتجين وصنّاع الدراما قد بالغوا في مستوى العنف؛ لاعتقادهم أنه يعزز جاذبية العمل الدرامي، فكان من المهم إظهار أفضل المقاطع والمرئيات وهي مليئة بالمشاهد الدموية من أجل جذب الجمهور.
العنف كضرورة في الدراما السورية القديمة
كان استخدام العنف ضرورياً لاستدعاء المشاعر في الأعمال الدرامية السورية القديمة؛ تلك الإثارة التي كانت تُمنح للمشاهدين، كان لها مبرراتها ومسوغاتها في الماضي وهي أن الناس يريدون رؤية أشياء لم يكونوا مطلعين عليها في الحياة الواقعية، نذكر مثلاً مشهد الخازوق في مسلسل "إخوة التراب"، والفضول الذي يشعر به الناس تجاه هذه الموضوعات وما تثيره من عواطف إثارة شديدة يختبرها الفرد أول مرة، كذلك استراق النظر والفضول حول الأعمال المحظورة بالنسبة لبعض المشاهدين. إن رؤية صور عنيفة أو جنسية تشبه أكل الفاكهة المحرمة، وهم يريدون تذوقاً لما هو عليه الحال عندما يكونون قادرين على رؤية المحتوى الذي لم يتمكنوا من رؤيته بطريقة أخرى.
ومن تلك المشاهد أيضاً، مشهد كرسي الإعدام والمشانق وغرف تشريح الجثث وغيرها، علاوة على ذلك؛ يمكن أيضاً استخدام العنف لاستدعاء مشاعر أخرى مثل الشعور بالرضا على سبيل المثال، فالمشاهدون يشعرون بالرضا عندما يرون سلوكاً عنيفاً موجهاً نحو شخصية شريرة مكروهة، والإشباع الذي يتلقّاه الجمهور من المشهد سيكون أقل لأنهم يشعرون بأن الشخصية كانت تستحق ذلك، وهذا أشبه بالحالة التفريغية أو التنفيسية. وبحسب علم النفس، فإن الأفراد لا يستمتعون في الواقع برؤية إراقة الدماء أو مشاهدة شخص ما يتعرض للضرب، لكنهم يستمتعون بالمشاعر التي تأتي معها مثل التشويق والإثارة، هم يدركون ذلك ويشعرون باختلاف الإحساس بالمشهد عن الصورة فيه.
ويمكن رؤية أمثلة مختلفة أخرى، مثلاً في غرف التحقيق والسجون وساحات القتال وغيرها، إذ لا يستمتع معظم المشاهدين برؤية امرأة تتعرض للاغتصاب أو مشاهدة رجل يُعذّب حتى الموت، لكنهم يشاهدونه على أي حال بسبب شعورهم به؛ والراحة الآنية الحاصلة من عدم وجود المشاهد في منطقة الحدث الذي يحدث فيه الفعل، وقد يختار الأفراد مشاهدة مواد عنيفة ودموية إذا توقعوا أن التصوير هو انعكاس هادف وقيِّم للواقع ويهدف إلى التعاطف مع المُعنَّف، وهنا يصبح من المبرر عرض تلك المشاهد العنيفة.
العنف كتمجيد للنظام وتشويه للحقائق في الدراما الحديثة
أما في حال الدراما السورية الحديثة –ما بعد 2011- وما تفعله من نهج مقصود تلعب فيه يد المخابرات دوراً بارزاً ومفضوحاً في تشويه الثورة السورية والفصائل السورية، خاصة مع أفلام نجدة أنزور "فانية وتتبدد" و"رد القضاء" ومسلسل "تحت سماء الوطن" ومسلسل "لأنها بلادي"، التي يمجّد فيها القوى العسكرية والميليشيات الطائفية، وتنفي عنها كافة أشكال العنف وتلصقه بالفصائل الثورية، حيث يعرض عن قصد مجموعة متنوعة من مشاهد العنف، كمشاهد الاغتصاب المتعددة، ومشاهد التعذيب، والقتل بدم بارد وقطع الرؤوس، والضرب المبرح والجلد، والجثث المشوهة... والعديد من المشاهد المعروضة في أفلام ومسلسلات نجدة أنزور الغاية واضحة منها، وهي نقل إجرام الأجهزة القمعية وإلصاقها بالفصائل الثورية.
ومن خلال تلك الأمثلة، يتبيّن لنا أن استخدام العنف في الدراما السورية الحديثة، له أغراض وغايات خبيئة ومدروسة في مكاتب وأجهزة النظام التي تشرف عليها بغية صناعة محتوى لأغراض، غالباً ما تكون وقحة ومفضوحة، ومنها ما حدث في إحدى لوحات مسلسل "كونتاك" من نكران لحوادث الهجمات الكيماوية التي شنها النظام، فدفعوا بمشهد من المفترض أنه عنيف، وهو قصف الأطفال بغاز السارين، بعد أن صنعوا محتوى مماثل لكنه مزيف للواقع، من أجل تبرير حادثة العنف على أنها مفبركة على يد فرق الدفاع المدني السوري (الخوذ البيضاء)، حين أدّت دور البطولة "أمل عرفة".
ووفقاً لنظرية "الغرس الثقافي"[i]، يخلق الجمهور عالماً من الأفكار والمحتوى العقلي الذي يماثلها، ما يولد تحيزاً تجاه الواقع وفقاً للمحتوى المعروض، ويمكن أن يكون له تأثيرات طويلة المدى على موقف الجمهور.
عندما يشاهد الفرد برامج تلفزيونية عنيفة، فإنه سيخزّن لا شعورياً الأحداث العنيفة في ذاكرته، وستحضر تلك الأحداث التي احتفظ بها الفرد في ذاكرته بشكل لا إرادي ليصبح عدوانياً وذا تأثير سلبي على المجتمع الذي يحرّض على العنف.
يستخدم العنف في الأفلام ووسائل الإعلام لأسباب عديدة ومع ذلك، فإن الصور التي نراها دموية وشائنة، ربما تخدم غرضاً تريد تحقيقه جهات الدولة تلعب فيه على مبدأ قبول الواقع كما هو، أو إشغال المجتمع وإلهائه، وتبريره لجرائم الدولة، وتطبيع الفساد، ولعل هذا هو المبرر لوجودها في العديد من الأعمال السورية الحديثة.
[i]- تقوم نظرية "الغرس الثقافي" على الفرض الرئيسي وهو أن الأفراد الذين يتعرضون لمشاهدة التليفزيون بدرجة كثيفة يكونوا أكثر قدرة لتبني معتقدات عن الواقع الاجتماعي تتطابق مع الصور الذهنية والنماذج والأفكار التي يقدمها التليفزيون عن الواقع الواقعي، أكثر من ذوي المشاهدة المنخفضة.