عرّفت الصحة العالمية "العنف التّوليدي" بأنه إحدى المشكلات الصحية العمومية التي تحدث نتيجةً لاستخدام القوة والعنف البدني عن قصد، سواء للتهديد أو للإيذاء الفعلي ضد النفس، أو ضد شخص آخر، أو ضد مجموعة أو مجتمع، وقد يؤدي العنف أو يحتمل أن يؤدي إلى الإصابة، أو الوفاة، أو الضرر النفسي، أو سوء النمو، أو الحرمان. وقد أصبح العنف واحداً من المشكلات الصحية الرئيسية في وقتنا الحالي، ولا يوجد بلد أو مجتمع لم يتأثر بالعنف.
منظمة الصحة العالمية أوضحت أن الإهمال في أثناء الولادة يؤدي إلى عواقب وخيمة تصل في معظم الأحيان إلى تهديد الحياة وتحتاج لتدخل طبي. وخيار الصمت والسكوت الذي تتخذه السيدات السوريات سواء عن جهل طبي أو قانوني، أو بحكم غياب الدعم المجتمعي والمعلومات المغلوطة المنتشرة؛ يدع هذه الظاهرة المهددة للحياة خارج الضوء.
وتتعرض النساء على مستوى العالم لأنواع مختلفة من عنف الولادة، المنتشرة بعدة صور بعضها يرتبط بالجانب النفسي وبعضها الآخر يسمى بالخطأ الطبي، تختلف التسميات إلا أن العواقب واحدة وتتمثل بـ "العنف التوليدي"، الذي يغيب القانون عنه بالكامل ولاسيما في السنوات الأخيرة.
نسبة كبيرة من النساء اللواتي تعرّضن لـ "العنف التوليدي" ومضاعفاته في المجتمع السوري، يعتقدنَ أن ما تعرّضنَ له هو "قضاء وقدر"، ولا يرغبن بافتعال المشكلات، أو تقديم الشكاوى، وغالبًا ما يجهلنَ أنه من حقّهن أن يقدّمن شكوى، في حين تكمن المشكلة الأكبر بأنّهن لا يعلمن أين يتوجهن بالشكاوى، كما يعتقدنَ بأن الصراخ أو الضرب من قبل القابلة في أثناء الولادة أمر طبيعي ولا يتحدث عنه أحد عادةً.
ومع تدهور القطاع الصحي في سوريا خلال السنوات العشر الماضية وغياب الرقابة والقانون إضافةً لممارسة البعض مهنة القبالة من دون أدنى خبرات، وجعلها سبيلًا للربح، باتت حياة الأم والجنين في خطر.
تحدثت سيدات سوريات لموقع تلفزيون سوريا عن قصصهن أو قصص سيدات أخريات فقدنَ حياتهن في أثناء الولادة بسبب أخطاء طبية كارثية، وأخريات حُرمن الإنجاب مدى الحياة.
اضطرت أحلام محمد (اسم مستعار -30 عاماً) وهي أم لطفلتين لاستئصال رحمها بسبب خطأ طبي ارتكبته ممرضة، حيث وضعت طلقاً اصطناعياً أدى لمخاض شديد ومن ثم إلى نزف حاد، استمر لساعات طويلة. خسرت بسسب ذلك أحلام حقها بالإنجاب.
أما فاطمة. ع (25 عاماً)، فكانت معاناتها في إحدى مشافي مدينة اعزاز بريف حلب الشمالي قبل سنتين، حيث تعرّضت للشتم والتوبيخ من القابلة المناوبة في أثناء الولادة بسبب إيقاظها من نومها بعد منتصف الليل، لتكمل فاطمة أنها ليست المرة الأولى التي تتعرض لسوء المعاملة وضعف الرعاية الصحية في تلك المناطق.
وتقول راما .ش (33 عاماً) إن طبيبتها عاملتها بنوع من الاستخفاف عندما طلبت منها أن تعطيها مسكّناً لآلام المخاض، ووعدتها بأنها سوف تعطيها الإبرة وبقيت تماطل القابلة حتى ولدت راما، لتكمل ساعات متواصلة من المخاض، على الرغم من أن (ولادة من دون ألم) لكن القابلة لم تفِ بوعدها.
وتختصر شابة تبلغ من العمر 18 عاماً تجربتها المؤلمة في أثناء ولادتها الأخيرة وحجم العنف والإساءة اللذين تعرضت لهما خلال الولادة بقولها: "لا أفكر بالحمل ثانية"، من دون أن تروي ما حدث معها في أثناء الولادة.
أما منال. أ (34 عاماً) المقيمة في مدينة غازي عنتاب التركية، فوجدت نفسها في غرفة العمليات حيث ستجري لها طبيبتها عملية قيصرية من دون أن تخبرها بذلك مسبقاً، لتكتفي الطبيبة بتبرير السبب أن العملية القيصرية أسهل وأفضل للنساء فوق عمر الثلاثين.
تُعتبر "الولادة القيصرية" إحدى أكثر أشكال العنف التوليدي شيوعاً في المستشفيات الخاصة من دون داعٍ طبي، وتحتل تركيا المرتبة الثانية بعد المكسيك بين دول العالم في عدد الولادات القيصرية، حيث بلغت نسبتها خلال عام 2021 (58 ولادة قيصرية من بين كل 100 ولادة).
مسالخ الأسد
حال القطاع الصحي في المشافي التابعة لحكومة نظام الأسد هو الأسوأ. تخبرنا إحدى السيدات المرافقة لواحدةٍ من أقربائها في أثناء الولادة في مشفى الرازي بحلب، بأن المشهد أشبه بـ "المسلخ"، وغالباً ما تولد النساء وحدهن من دون أي مساعدة من الكادر الطبي مما يعرضهنّ لمضاعفات خطيرة تودي بهنّ لفقدان جنينهن، عدا عن رؤية الدماء الملوثة على الأسِرّة وعدم استخدام الطبيبات ستائر في أثناء الفحص النسائي.
لتأخذني الذاكرة إلى نحو خمسة عشر عاماً للوراء وأستذكر قصة سمعتها من إحدى السيدات التي فقدت جنينها في أثناء الولادة في ذات المشفى، وما تعرضت له من ضرب مبرح لأنها كانت تصرخ في أثناء المخاض، وتهديد حال استمرت بالصراخ.. وبعد كل ذاك العناء ولدت السيدة دون أي مساعدةٍ من الممرضات أو القابلات، ويخرج جنينها ميتاً.
صمت النساء عن تجاربهن يعطي فرصة للأطقم الطبية السيئة بالتمادي والاستمرار بجرائمهم في تعنيف النساء، فقد كشف تقرير أممي جديد صادر عن منظمة الأمم المتحدة للطفولة "اليونيسيف" ومنظمة الصحة العالمية لحالات الإملاص أو المواليد الموتى، أن 84% من هذه الحوادث المؤلمة تحدث في البلدان منخفضة ومتوسطة الدخل، ففي كل 16 ثانية يولد طفل ميت، أي أن ما يزيد على مليوني طفل على مدار العام لم يستنشقوا أنفاسهم الأولى. المصدر: نون بوست
ليست الأخطاء الطبيية والإهمال وسوء المعاملة التي تعيشها المرأة في غرف المخاض هي حالات نادرة، بل ظاهرة منتشرة بشكل كارثي يستدعي وضع حلول سريعة وتحذيرات حقوقية وصحية وتوعية للأمهات بشكل عاجل.