استقبل شاب سوري ثلاث فتيات بريطانيات في الـ 18 من شباط عام 2015 في مطار إسطنبول وأقلهن إلى محطة حافلات "أسنلر" ليكملن طريقهن إلى مدينة غازي عنتاب ومن ثم يعبرن الحدود السورية وصولاً إلى هدفهن بالانضمام إلى تنظيم الدولة، ليتبين لاحقاً أن الشاب السوري يدعى محمد الرشيد ويعمل عميلاً مزدوجاً لدى التنظيم والمخابرات الكندية، وأن الفتيات الثلاث هن شميمة بيغوم (15 عاماً) وقديرة سلطانة (15 عاماً) وأميرة عباسي (15 عاماً). الآن الرشيد مسجون في تركيا وقديرة وأميرة قتلتا في سوريا، في حين تقطن شميمة في مخيم الروج أقصى شمال شرقي سوريا بعد أن نزعت بريطانيا الجنسية عنها عام 2019، لكن بعد الفضيحة تجددت الآمال لدى شميمة.
ما طرأ أخيراً يوم الثلاثاء الماضي أن كتاباً جديداً صدر للكاتب ريتشارد كرباغ، وهو مراسل أمني سابق في صحيفة صنداي تايمز، حمل عنوان "التاريخ السري للعيون الخمس"، وكشف فيه أن المخابرات الكندية متورطة بدخول الفتيات الثلاث إلى سوريا وانضمامهن إلى تنظيم الدولة، ثم نجحت كندا في إقناع بريطانيا بالتستر على دورها. لأن المخابرات الكندية لم تعلم بتجنيد بيغوم إلا بعد أربعة أيام من مغادرتها بريطانيا، عندما كانت قد عبرت بالفعل الحدود إلى سوريا.
رفضت الحكومة البريطانية ورئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو التعليق على المعلومات الواردة في الكتاب، بحجة أنه "لا يمكن التعليق على المعلومات الاستخبارية العملياتية أو المسائل الأمنية".
والجدير بالذكر أن جزءاً كبيراً من المعلومات التي كشف عنها كتاب كرباغ سبق أن كشفت عنها السلطات التركية عام 2015، لكن الإعلام الغربي الذي كان منشغلاً باتهام أنقرة بتسهيل مرور مقاتلي تنظيم الدولة الأجانب، فلم يأخذ هذه المعلومات على محمل الجد.
من هو الشاب السوري محمد الرشيد؟
بحث موقع تلفزيون سوريا عن القصة منذ البداية، لتقاطع المعلومات عند عدد من المصادر الخاصة.
تخرج محمد الرشيد عام 2009 في كلية طب الأسنان بجامعة تشرين، وبعد عام من افتتاح عيادته تم سحبه للخدمة الإلزامية، ثم اندلعت الثورة السورية في الوقت الذي كان يخدم الرشيد في محافظة درعا.
وانشق الرشيد عن قوات النظام وعمل في المستشفيات الميدانية في درعا، ثم بعد سيطرة قوات النظام على مدينة درعا عام 2012، انتقل الرشيد إلى الأردن، وتقدم بطلبات لجوء إلى السفارات الفرنسية والأميركية والكندية. لم يتلق الرشيد رداً من السفارتين الفرنسية والأميركية، لكن بعد بضعة أيام قبلت السفارة الكندية طلب اللجوء وعرضت عليه العمل كجاسوس لصالحها مقابل الحصول على الجنسية الكندية.
وبعد سيطرة فصائل المعارضة على مدينة الرقة ومعظم أجزاء المحافظة عام 2013، سافر الرشيد إلى تركيا بجواز سفره السوري، ثم دخل سوريا من جهة ولاية شانلي أورفا التركية.
وبعد وصوله إلى مدينة الرقة مسقط رأسه، عمل الرشيد في المستشفيات الميدانية التي كانت تغص بمصابي الحرب من مقاتلي المعارضة سواء من الجيش الحر أو جبهة النصرة أو تنظيم الدولة، وخلال هذه الفترة تردد الرشيد مرات عدة إلى الأردن.
ولمعرفة تفاصيل هذه المرحلة من حياة محمد الرشيد يمكن الاستناد على روايته واعترافاته التي نقلها موقع "خبر تورك" التركي. ويقول الرشيد في اعترفاته إنه تعرف عام 2014 في مدينة الرقة على "أبو القعقاع" وهو بريطاني الجنسية، والذي طلب من الرشيد المساعدة في جلب الأشخاص الراغبين بالانضمام إلى التنظيم، ووافق الرشيد على المهمة.
أبلغ محمد الرشيد الضابط المسؤول عنه في السفارة الكندية في عمان واسمه "مات" بالحادثة، وطلب "مات" من الرشيد البقاء في تركيا وإرسال جميع المعلومات الخاصة بالمقاتلين القادمين من دول أجنبية للانضمام إلى داعش ، بما في ذلك الصور وبيانات جواز السفر.
وأكد مصدر خاص لموقع تلفزيون سوريا أن محمد الرشيد لم يكن يخفي ارتباطه بـ "الكنديين"، لأن هذه المعلومة يعرفها عدد من ناشطي المدينة.
وهكذا بدأ الرشيد مهمته الجاسوسية المزدوجة في تركيا باستقبال الأجانب الواصلين إلى تركيا والراغبين بالانضمام إلى تنظيم الدولة.
في الـ 18 من شباط عام 2015 وصلت بيغوم مع رفيقتيها إلى إسطنبول، وأقلهن محمد الرشيد إلى محطة انطلاق الحافلات في منطقة "أسنلر" واقتطع لهن التذاكر إلى مدينة غازي عنتاب، ليتسلمهن هناك المسؤول في تنظيم الدولة "أبو بكر".
كان محمد الرشيد يأخذ جوازات سفر الأشخاص الذين يستقبلهم بحجة أنه سيقطع لهم التذاكر، لكنه في هذه الحركة كان يصور جوازات السفر ليرسلها إلى المخابرات الكندية.
بعد 10 أيام من مهمة بيغوم ورفيقتيها، ألقت المخابرات التركية القبض على محمد الرشيد في مدينة أورفا الحدودية جنوبي البلاد، عثرت في منزله على جهاز محمول يحتوي على معلومات غير اعتيادية.
وفي الـ 15 من آذار عام 2015 بثت وسائل إعلام تركية تسجيلات مصورة للحظات وصول بيغوم وقديرة وأميرة إلى مطار إسطنبول ولقائهن بمحمد، وكذلك بثت فيديوهات سجلها محمد الرشيد سراً للفتيات الثلاث في أثناء نقلهن إلى محطة الحافلات.
وعثرت المخابرات التركية في جهاز محمد المحمول على صور لجوازات سفر 16 شخصاً من الجنسيات البريطانية والنرويجية والأسترالية والتونسية والصومالية والبلجيكية والجنوب أفريقية.
وكشفت السلطات التركية أن محمد الرشيد دخل إلى تركيا من المعابر الحدودية 33 مرة في الفترة ما بين منتصف 2013 ووقت إلقاء القبض عليه.
وطالب الادعاء التركي بسجن محمد الرشيد 26 عاماً بتهمة الانتماء إلى منظمة إرهابية والاتجار بالبشر. في حين قال مصدر خاص لموقع تلفزيون سوريا إن الرشيد حكم عليه بالسجن 7 سنوات فقط ولا يعرف أين هو الآن.
اعترافات الرشيد باتت ورقة ضغط بيد أنقرة واتهمت حلفاء التحالف الدولي بالتورط في نقل مقاتلي التنظيم الأجانب، وتحدثت صحف كندية عن تورط سفير كندا في الأردن حينذاك برونو ساكوماني، وهو ضابط سابق في شرطة الخيالة الكندية الملكية وكان الحارس الشخصي لرئيس الوزراء الكندي حينذاك ستيفن هاربر الذي عينه عام 2013 كمبعوث إلى عمان، مع مسؤولية مزدوجة في العراق.
وبالعودة إلى أصداء كتاب ريتشارد كرباغ الذي فجّر القضية أخيراً، طالبت محررة الأمن والجريمة، فيونا هاملتون، ومحرر التحقيقات، دومينيك كينيدي، والمحرر القانوني، جوناثان آميس في صحيفة التايمز البريطانية في مقال مشترك حمل عنوان "مطالبة بريطانيا بالكشف عن أسرار نقل شميمة بيغوم إلى سوريا بعد فضح عملية تجسس"؛ طالبوا بريطانيا بالكشف عن أسرار نقل شميمة بيغوم إلى سوريا.
وقال المحررون في المقال إن بريطانيا متهمة بإخفاء حقيقة تهريب التلميذة شميمة بيغوم إلى سوريا.
وتعالت الأصوات في بريطانيا بضرورة إجراء تحقيق مستقل في تصرفات الشرطة وأجهزة المخابرات.
وقال خبراء قانونيون إن ما تم الكشف عنه قد يكون له تأثير كبير على قضية بيغوم عندما تعود إلى لجنة الاستئناف الخاصة بالهجرة في نوفمبر/ تشرين الثاني، وإن المعلومات قد تكون في صالحها.