العمل السياسي من التطوع إلى المهنة

2024.06.23 | 06:15 دمشق

آخر تحديث: 23.06.2024 | 06:15 دمشق

مظاهرات الثورة السورية
+A
حجم الخط
-A

كان فلاسفة اليونان أول من أعطوا أهمية لدراسة السياسة، إذ إن ولادة الدولة المدينة في اليونان بتأثير نظام الدولة المدينة في سوريا الآرامية جعل من المحتم ولادة علم جديد لإدارة مؤسسات الدولة، كان ذلك العلم هو السياسة التي اعتبرها أرسطو مثل سائر العلوم، بل تتفوق عليها إذ إن السياسة باعتقاد أرسطو علم مهمته إصلاح المجتمع، وتطويره وتثقيفه، بما يتناسب مع القيم العليا.

وفي كتابه "الجمهورية" أظهر أفلاطون رغبته الشديدة بضرورة تكوين مؤسساتٍ خاصة لتدريس علم السياسة، مع العلوم الأخرى، غرض هذه المؤسسات تدريب رجال الدولة والمستشارين، للمحافظة على قوة الدولة واستمرارها.

يقول الفيلسوف علي حرب: "السياسة بما هي ولاية عامة أمر يخص كل فرد في المجتمع، كل واحد يجد نفسه مطالباً أو مكلفاً بتعاطي الشأن العام بصورة من الصور".

ولكن، انتقالاً إلى الاشتغال بالشأن العام، لا يمكن لمن يرغب بعمل سياسي حقيقي أن يمارسه بفاعليه من دون انتمائه لجماعة سياسية أو لحزب سياسي سواء أكان حزباً معارضاً أم حزباً حاكماً أم حزباً مقرباً من سلطة، وغالبا ما يلجأ من يرغب بعمل سياسي مميز وفاعل إلى تأسيس حزب سياسي بالتضامن مع راغبين بالعمل السياسي الفاعل، أو القيادي، لاسيما إن دعم الحزب رجال أعمال ورجال فكر.

فهناك من يملك من الطاقة والفاعلية ما يوازي حزباً بحاله، وهو أمر صار ممكناً في عالم وسائط التواصل الاجتماعي، فإن ما تحظى به من متابعة فيديوهات بعض السياسيين أو المتحدثين في السياسة عبر اليوتيوب أو التيك توك أو الفيسبوك يفوق ما كان يحظى به رؤساء أحزاب معارضة في الثمانينات والتسعينيات بعشرين ضعفا على الأقل.

إن ما تحظى به من متابعة فيديوهات بعض السياسيين أو المتحدثين في السياسة عبر اليوتيوب أو التيك توك أو الفيسبوك يفوق ما كان يحظى به رؤساء أحزاب معارضة في الثمانينات والتسعينيات بعشرين ضعف على الأقل

شاهِدنا هنا، هو اختلاف مفهوم العمل السياسي، فبسبب هذا الاختلاف، تورطت المعارضة السورية، على سبيل المثال لا الحصر، في فخ التوظيف المأجور، مقابل عمل يفترض به في الحالة الثورية التطوع بدل التوظيف، والعطاء بدل القبض، والبذل بدل الأخذ، وربما التشرد أحيانا بدل "التفندق" أو السكن والإقامة المديدة!

ولد مفهوم السياسي "العامل" كما مفهوم السياسة المهنة المأجورة في الغرب بلا شك، حيث ولدت السياسة الحديثة وتمأسست وتقوننت مع هوبز ومكيافيللي.

ظهر معنى السياسة انطلاقاً من الالتزام بعمل عام يفترض به غاية الخدمة العامة لمدينة أو منطقة وفي المحصلة لبلد أو لرمز البلد، الملك، وهذا العمل العام الذي يقوم به شخص متبرع بوقته متطوع بجهده يُفترض به الإخلاص والنزاهة والموثوقية، والأهم الاستمرارية، أي المتابعة اليومية الجدّية ما يحتم عليه التفرغ الكامل، الأمر الذي جعل من السياسة عملا أو مهنة.

لكن السياسة مثلها مثل أي عمل مؤقت أو موسمي ليست عملاً لا نهاية له، فهي ليست مهنة تقليدية، فالسياسي عندما ينجح أو يفشل في مشروع سياسي ما يفترض به أن يتنحى، أو يستقيل.

كما أن السياسة ليست عملاً مضمون الثمار من جهة ثانية، فاحتمال أن ينتهي عمل سياسي أو مشروع أو مهمة سياسية بالفشل أمر وارد دوما. عندها لو فشل السياسي المتطوع سينسحب من المشهد العام ويعود إلى حياته اليومية، إنسانا غير سياسي أو فرداً منسحباً من الشأن العام ليحل محله شخص آخر يتصدى للعمل السياسي أو للخدمة العامة، وهكذا.

من ناحية المردودية والجدوى الأمر يختلف بالنسبة للسياسي المحترف أو الموظف أو المتعيش الذي يعتبر السياسة مهنة أو حرفة دائمة له، أو حتى للسياسي الذي لا يعرف سوى السياسة ولا يرغب بأي عمل سوى العمل السياسي، بغضّ النظر عن مدى نجاحه أو فشله.

ولد مفهوم السياسي "العامل" كما مفهوم السياسة المهنة المأجورة في الغرب بلا شك، حيث ولدت السياسة الحديثة وتمأسست وتقوننت مع هوبز ومكيافيللي.

ماذا لو كان هذا الشخص "العمومي" أو السياسي تمكّن من النجاح في مهمته وقام بتحقيق إنجاز أو أكثر؟ بالطبع لا بد أن يكافئه الناس المستفيدون كمجلس البلدية في القرية أو المدينة، وربما يتقرب منه أصحاب المال والمطامع فيقدمون له أجراً شهرياً، ليتابع عمله لخدمة العموم، أو لخدمة هؤلاء المتمولين والطامعين، فهو لو فشل بعد ذلك في خدمة الناس وثبت أنه فشل عمدا أو قصدا لصالح رجل غني أو ذي نفوذ فإن الناس تسقط هذا السياسي "الرجل العمومي" وتطرده وربما تغرمه عن أي خسارة تكبدوها خلال عمله السياسي.

هذا ما كان يحدث في الشرق غالباً وفي سوريا خصوصاً، عندما كان السياسيون نزيهين، مخلصين للعمل العام، رغم فشلهم في بعض التفاصيل، حيث بقيت السياسة تشهد بروز أشخاص أخلاقيين ونزيهين في العموم، إلى أن وصل العسكر ورجال الأمن إلى السلطة حوالي سنة 1960 وما تلا ذلك من كوارث.

ماذا لو كان هذا الشخص "العمومي" أو السياسي تمكّن من النجاح في مهمته وقام بتحقيق انجاز أو أكثر؟ بالطبع لا بد أن يكافئه الناس المستفيدين كمجلس البلدية في القرية أو المدينة، وربما يتقرب منه أصحاب المال والمطامع فيقدمون له أجراً شهرياً

في الشرق وسوريا الثورة

في الشرق الأوسط العربي المستلَب فاقد السيادة والحرية قليلاً ما تُمارس السياسة كعمل احترافي من قِبل المعارضة، لو وجدت المعارضة أصلاً، أما في الشارع والمدرسة فالسياسة ممنوعة خارج منظومة الحزب الحاكم أو حزب السلطة.

وفي بلد مثل لبنان منذ تأسيسه قبل قرن من الزمن كانت ممارسة السياسة حصرا في العائلات الإقطاعية الكبرى فيه، بحيث استمرت ذهنية ونمط الإقطاع العائلي ليسيطر على سائر مناحي الحياة العامة في لبنان وصولا إلى ولادة ما يمكن تسميته بالإقطاع السياسي.

وفي العراق ولدت الطائفية والعرقية السياسية بعد سقوط صدام حسين واحتلال أميركا وإيران للسياسة والأرض معاً.

أما السياسة بعد الثورة السورية، فقد مارسها كثير من المعارضين السابقين والمستجدّين من منطلق عصبوي، سواء أكان مذهبيا أم عرقيا، علماً أنه لم يكن مطلوباً من أي جماعة سورية أن تمارس السياسة من منطلق جماعاتي، سواء أكان مذهبيا طوائفيا أم اثنيا عرقيا قوميا. فممارسة السياسة تكون من بوابة المصلحة الإنسانية الجماعية المتوجهة للمجتمع الإنساني في بقعة جغرافية ما مثل سوريا أو العراق أو مصر أو الجزائر أو لبنان.

لذلك لم يكن مطلوباً من أي جماعة مناطقية أو إقليمية أن تصدر براءة من سلوك حزب أو رابطة سياسية أو عصابة تنتمي اسمياً إلى هذه الجماعة المناطقية أو الإقليمية باستثناء "الجماعة العلوية" باعتبار أنها كانت محسوبة على النظام الحاكم الذي قدم نفسه للسوريين كنظام علماني فيما قدم نفسه للغرب على أنه نظام الطائفة حامي الطوائف الأقليات، بينما كان المطلوب من الجماعات قبل الوطنية في سوريا العكس من ذلك، كان المطلوب ألا تعلن مجموعات وأفراد تنتمي اسمياً إلى جماعة مذهبية أو قومية أو إثنية دعمها لحزب أو رابطة سياسية أو عصابة تنتمي اسميا إلى هذه الجماعة.

كان المطلوب من الجماعة الصمت لا الانحياز والتأييد والدعم، وكذلك لا الاعتراض والرفض والبراءة.

كان المطلوب في سوريا ألا تعلن مجموعات وأفراد تنتمي اسمياً إلى جماعة مذهبية أو قومية أو اثنية دعمها لحزب أو رابطة سياسية أو عصابة تنتمي اسميا إلى هذه الجماعة

السياسة كمهنة

تحوّلت السياسة إلى مهنة وخدمة مأجورة في الغرب في وقت قريب، وأصبحت جزءا من قطاع العلاقات العامة، وإن لم تكن مهنة بالمعنى الحرفي حتى لو وجدت لها في القرن العشرين مؤسسات تعليمية (جامعات وكليات) تدرّس السياسة، لكن السياسة فن أيضاً وبذل واجتهاد شخصي قبل أن تكون علماً، ولإن أرسل كثير من الأغنياء والنخب الحاكمة أبناءهم إلى كليات وجامعات ليدرسوا علوم السياسة، فقليل من هؤلاء الأبناء من صار سياسياً أو نائباً أو وزيراً، في حين يذهب قسم منهم إلى العمل كباحثين سياسيين في مراكز أبحاث، أو ينضم إلى حزب أو يؤسس حزبا يرتبط بشركات ومصالح تقدم له الدعم المالي.

على الأغلب فإن الزعماء السياسيين التاريخيين في الشرق أمثال غاندي ومانديلا وماو وأتاتورك وبن بيلا لم يدرسوا السياسة، لكن زعماء الغرب الشهيرين ربما درسوا في الجامعات السياسة أو التاريخ وسوى ذلك وربما تفوق بعضهم في عمله السياسي أمثال تشرشل رغم عدم تلقيهم العلوم السياسية في أكاديميات متخصصة، مع ذلك وفي العموم فإن أحفاد هؤلاء السياسيين انضموا إلى مجتمع النخبة أوتوماتيكيا فانتسبوا إلى كليات العلوم السياسة وصاروا سياسيين يمارسون التحكم بالمجتمع ليكونوا طرفاً فاعلاً في السلطة، بل ليكوّنوا ويصنعوا، هم أحفاد قادة الماضي، مجتمع السلطة الراهن .