على الرغم من نبرة التعادي العالية بين الولايات المتحدة الأميركية وإيران منذ وصول الخميني إلى السلطة عام 1979، فإن هذه الحرب التي اقتصرت أغلب وقائعها على الحيّز الإعلامي اتسمت بالعديد من الأمور التي تجعل منها حرباً غامضة وشديدة التعقيد، ولعل مصدر التعقيد فيها يتأتى من كون الطرفين معاً – واشنطن وطهران – لا تهدفان إلى حرب فاصلة تفضي إلى قطيعة كاملة بينهما، وكذلك لا تهدفان أيضاً إلى الوصول نحو صيغ ثابتة وضامنة لعلاقات مستدامة قائمة على تفاهمات واضحة وصريحة، وهذا بالفعل ما عكسته طبيعة العلاقة بينهما منذ عقود، إذ يمكن التأكيد أنه منذ قيام إيران الخمينية قبل (44 عاما) وحتى الآن لم تجر أي مواجهة عسكرية من خلال الجيوش النظامية بين البلدين، بل آثر الطرفان أن يخوضا حرباً مستمرة لكن بالوكالة من جهة، وخارج حدود كلتا الدولتين من جهة أخرى، وكذلك يمكن التأكيد على أن التصعيد الأميركي حيال إيران، وفي أعلى أطواره لم يصل إلى درجة إعلان واشنطن رغبتها في إسقاط النظام الإيراني أو استبداله، والاكتفاء بالضغط عليه من خلال (نظرية زعزعة الاستقرار)، دون إسقاطه، بطرق متعددة الأشكال، في مقدمتها خلخلته اقتصادياً واجتماعياً وبالتالي إضعافه سياسياً، وذلك على خلاف استراتيجيتها مع الأنظمة المناهضة لها في المنطقة، كالنظام العراقي السابق على سبيل المثال.
التفاهم بين إيران والغرب عموماً، والولايات المتحدة الأميركية على وجه الخصوص، لن تكون تداعياته محصورة بين الجانبين فقط، بل ستطول المنطقة العربية برمتها
يُعدُّ الثاني من نيسان لعام 2015 مفصلاً حاسماً في تاريخ الصراع بين واشنطن وطهران، إذ شهد التاريخ المذكور صدور بيان من مدينة لوزان السويسرية يؤكّد أن تفاهماً قد حصل بين إيران من جهة، والدول الست (روسيا – الصين – أميركا – فرنسا – ألمانيا – بريطانيا) من جهة أخرى، يفضي إلى تفاهم حول الملف النووي الإيراني، وفي حين اعتبرت إيران أن الاتفاق المذكور يضع حداً لحلقة مفرغة لم تكن لصالح أحد، فإن حكومة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما وصفت البيان بأنه تاريخي.
لعله من الصحيح أن الاتفاق المذكور قد تعطل تنفيذه، ولم يتجسّد أي جزء من مضامينه حتى الآن، ولكنه في الوقت ذاته ما يزال مشروعاً قائماً إلى الآن، بل يمكن التأكيد أن كثيراً من السياسات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط قد انزاحت إلى وجهات مختلفة تحسّباً لتحوّله إلى حيّز التنفيذ، ما يعني أن التفاهم بين إيران والغرب عموماً، والولايات المتحدة الأميركية على وجه الخصوص، لن تكون تداعياته محصورة بين الجانبين فقط، بل ستطول المنطقة العربية برمتها، ولعل أولى تلك التداعيات تحوّل إيران بنظر السياسات الغربية من دولة مارقة مُصدِّرة للإرهاب وباعثة على عدم الاستقرار، إلى دولة لها كامل الأحقية بممارسة دورها الإقليمي الذي تتطلع إليه، كما يعني ذلك الاتفاق المفترض ضمناً إلغاء جميع العقوبات الاقتصادية والأمنية المفروضة عليها، بما في ذلك إلغاء الحظر المفروض على أرصدتها المالية في البنوك الخارجية، وبالتالي فإن من شأن اتفاق كهذا – إذا تُرجم عملياً – أن يضفي كامل الشرعية على سلوك إيران الذي تعدّه الولايات المتحدة سلوكاً مارقاً أو عدوانياً.
الانحياز الإيراني الصريح إلى جانب روسيا، موازاة مع علاقات وطيدة مع الصين، قد يفضي إلى محور ثلاثي – روسي إيراني صيني – لا تطول تداعياته الجوانب الأمنية للمنطقة فحسب، بل ربما كان قادراً على التحكم في البوصلة الاقتصادية أيضاً
لعلَّ تعثر الاتفاق أو عدم التوافق الكلّي عليه بين الأطراف المتفاوضة حتى الآن، لا يلغي الخوف أو التحسّب من تداعياته من جانب مجمل دول المنطقة، وفي مقدمتها دول الخليج العربي، وربما قاد هذا التخوف إلى استدارات سياسية كان أبرزها مجمل التفاهمات التي جرت بين المملكة العربية السعودية وإيران برعاية صينية في شهر آذار الماضي، تبعتها استدارة سعودية وعربية باتجاه التطبيع مع أحد أبرز الأذرع الإيرانية في المنطقة، نعني نظام الأسد، إلّا أن هذه الاستدارة السعودية لم تكن محكومة بمسار السياسات الإيرانية في المنطقة فحسب، بل بما استجدَّ من تغيّرات سياسية أيضاً بعد الحرب الروسية الأكرانية التي بدأت بظهور ملامح لمحاور إقليمية بدأت بالتبلور شيئاً فشيئاً، ولعله بات واضحاً أن الدعم الإيراني للروس باتت تترجمه الطائرات المُسيّرة الإيرانية الداعمة لبوتين في حربه ضد أوكرانيا، وهذا الانحياز الإيراني الصريح إلى جانب روسيا، موازاة مع علاقات وطيدة مع الصين، قد يفضي إلى محور ثلاثي – روسي إيراني صيني – لا تطول تداعياته الجوانب الأمنية للمنطقة فحسب، بل ربما كان قادراً على التحكم في البوصلة الاقتصادية أيضاً، وهذا ما يجعل تعاطي دول الخليج وفي مقدمتها المملكة العربية السعودية، مع هذا المحور أمراً واقعاً في ظل الجفوة أو الفتور السعودي الأميركي.
ربما كان من المبكر القول إن دول الخليج باتت حليفاً عضوياً للمحور الثلاثي المناوئ لواشنطن، بل ربما ما تزال بعض دول الخليج تحاول الظهور بموقف متوازن، على الأقل من حيث المواقف المعلنة، وكان هذا واضحاً من خلال دعوة السعودية للرئيس الأوكراني ليكون ضيفاً على قمة جدّة في أيار الماضي، إلّا أن هذه الرغبة الخليجية هل ستحقق نوعاً من الاستدامة في ظل تنامي الصراع بين الغرب على العموم وفي مقدمته الولايات المتحدة الأميركية وبين روسيا؟ وهل ستبقى الخطوات السعودية باتجاه إيران في مأمن من التصعيد الغربي حيال طهران بسبب دعمها العسكري المباشر لروسيا؟