العلاقات بين الأشخاص لها روحٌ من مودة وصبر وتفاهم، فإذا ما كثر اللاعبون بها؛ فقدتْ روحها، وصارت نهباً للريح. قد تكون نتيجةَ تلك العلاقة عائلة وأطفال، أو خلفها عشق قديم، أو صداقة دافئة، لكن كل ذلك سيغدو ملعباً للهواة.
تكشف الحالات التي آلت إليها العائلة السورية في أوروبا بعد مرحلة اللجوء، أنَّ عقود المودة والرحمة و"أنتم لباس لهن وهن لباس لكم" لم تصمد كثيراً إبان التحول إلى العلاقة التشاركية التي يفرزها نظام الحياة في أوروبا.
ليس السبب الرئيس كون النظام التشاركي يقوم على علاقة متكافئة فحسب، بل لأن تلك الروح الناظمة والحاملة لها قد فُقِدَت، وصارت تحملها لغة معيارية قانونية فحسب، وكيف للقانوني أن يصمد أمام تاريخ روحاني وحالة من العفوية والالتزام المعتق؟
ليس موضوع حديثنا الرئيس هاهنا تلك العلاقات التي كان من الضروري أن تنتهي بالطلاق؛ كونها في الأساس كانت تقوم على ظلم أحد الطرفين للآخر، (وفي هذا السياق غالباً رجل يظلم امرأة) أو مارس العنف ضدها بمختلف أنواعه وساعده مجتمع ينظر إلى المرأة كائناً من الدرجة الثانية.
ولم يستطع الطرف الظالم أن يتخلص من عاداته وحمولاته الاجتماعية والفكرية ويصبح بعد اللجوء كائناً عادلاً، أو أقرب إلى قيم العدل! ومعلوم أن ذلك يحتاج إلى سنوات وربما أجيال كي تتعدل تلك العادات والتقاليد السلبية!
موضوعُ حديثنا الرئيس عدد من قصص العشق التي نظرنا إليها ذات يوم في مجتمعنا الأم، بأنها رائدة في سياقاتها الاجتماعية السورية، وإذ بها تتدمر وتفسد إبان التحول إلى العقود التشاركية.
بل هناك إشارات أخرى غريبة تظهر أن هناك حالة رِدة إلى الجذور الأولى لدى عدد من أولئك العشاق، بعد تغيرات هرمونية ومراحل سن اليأس عند كل من الرجل والمرأة، فما الذي حدث؟ وما هي المنظومات القيمية الجديدة التي حلت على أولئك العشاق؟
تشير قراءة في عدد من حالات العوائل السورية في أوروبا إلى أن العلاقات ذات الحمولات العائلية والأقارب قد صمدت أكثر من سواها، نتيجة وجود التكافل العائلي لدى كبار العائلة أو وجود تشابكات أو "خجل اجتماعي" وبالتالي فإن الزواج يحضر بصفته جزءاً من خلطة العائلة الكبيرة والتزاماتها تجاه بعضها بعض وعصبتها.
ويتولد سؤال آخر: هل كانت معظم علاقات العشق السورية نوعاً من البحث عن الحماية المتبادلة بين أولئك العشاق؟ وحين شعروا بالأمان النفسي والمادي والاجتماعي وصاروا متحررين من تلك الالتزامات القديمة باتوا يبحثون عن سلبيات الآخر وينبشون فيها؟ وبالتالي اكتشفوا متأخرين أن ذلك الخيار ليس هو الخيار الأفضل؟
وما الحبُّ، في أحد تعريفاته، إلا الأمان والاطمئنان الذي تجده عند الآخر، فيظهر على هيئة نبضة قلب؟
بحثياً؛ من أكثر الحالات التي أتعبت محاولات التنميط هي علاقات البشر فيما بينهم، التي تنظمها نواظم عدة، قد يكون الحب أو الزواج أو الصداقة أو العائلة، أو الأخوة أو الجيرة أو زمالة العمل أو زمالة أماكن اللهو واللعب، أو المدير والموظف..
وعلى الرغم من كل محاولات التنميط والتأطير والقوننة والقولبة؛ إلا أننا نلتقي كل يوم بنماذج كاسرة لتلك الأطر، كأن تحولات النفس البشرية وتغيراتها عصية على الاستقرار، ويكمن جانب من وجودها عبر التمرد.
الكثير من أولئك العشاق السوريين سبق أن اختاروا الدخول في علاقة مع حبيب أو حبيبة، بناء على قرار فردي غالباً، أو انسجام الخيار الفردي مع الخيار العائلي. ولم يكن في سياق اختيارهم حالة إجبار أو إكراه، فلماذا تقطعت بهم السبل وخَفَتَ وهج العاطفة لديهم؟ أهي الحالة الفردانية التي تنظم المجتمع الأوروبي؟ أم أنه الفراغ؟ أم خيبات الثورات وصدماتها وتكسر الأحلام على الأحلام؟
تكتب عاشقة سورية إلى حبيبها:
حبيبي الغالي، رحيلي عن حياتك ليس إنكاراً لذلك الماضي الجميل، بل هو استجابة لتغيرات عميقة لا أدرك كنهها.
أفضل شيء أقوم به في تلك اللحظة هو أن أرحل عن عالمك لعلي أستطيع أن أراك بعيون أخرى،
فإن كنتَ تقع في ضوء شمسي؛ فكن على ثقة أنني لن أغيب طويلاً وسأنجذب إليك لاحقاً!
يردُّ عليها:
حبيبتي الغالية!
معاندة الأقدار لا تليق بتلك البلاد التي تحاول أن تجعل كل قدر سماوي أرضياً،
وكيف لعلاقة سماوية أن تتحول إلى علاقة أرضية؟
لا يمكننا أن نبقى طائريْن والجو مليء بالأقفاص؟
ستشعر الأقفاص بالبرد إن لم تمتلئ بالساكنين،
أتذكرين يوم كنا نطير على أجنحة الحلم، باحثين عنا معاً؟
يوم أخذتِ تطيرين وحيدة، فرحت بك ولك وفيك،
غير أنني خفت عليك من ذباب لا يستطيع التحليق فيحاول أن يؤذيك بحجة حمايتك من الانحباس الحراري.
ثم يعود إلى أقفاصه مساء وتبقين أنت هناك لا تكترثين بحضن انتظاري لك.
وبعيداً عن رسائل العاشقين التي ضيعتْ نكهتها عناوين البريد الإلكتروني، يشير التاريخ الوجداني للعشاق السوريين في أوروبا إلى حالة من الضياع والتشتت والتغرب، ينمّ عن تحولات نفسية واجتماعية مؤلمة ضمن سياق تحولات اللجوء، ومن الملاحظ أن حالات انتظار الحصول على "الإقامة القانونية" بسبب سياسات اليمين المتطرف في هولندا وغيرها قد تركت بصمتها على أولئك العشاق، وانفصل كثير منهم وهم في مرحلة الإقامة بالمخيمات، نتيجة صعوبة تلك المرحلة وحساسيتها وما يتعرض فيها اللاجئون من حروب نفسية تتعلق بالانتظار والإشاعات وعدم الثقة.
لقصص العشاق والعاشقات السوريين نكهةٌ فقدتْ الكثير من حيويتها وتميزها وعبقها نتيجة فقدان السياقات الاجتماعية المعاندة لها أو المحتفلة بها، وقد كانت تتغلب على أزماتها في مرات كثيرة بالاحتفال الاجتماعي بها، أو شعورها بالاختلاف!!!
أما وقد صارت عاديةً في مجتمع فرداني، من الطبيعي أن يقوم كل شخص بما يريد، ولا يكترث للعشق غير المقونن، خارج خيارات الأفراد فإنها انطفأت، وربما تحتاج إلى نيران جديدة تهبُّ ثانية من قلوب أولئك العشاق، بعد أن يتخلصوا من وعثاء اللجوء وسوء منقلب الأفكار التي لا تنتهي، واللهاث نحو أمنيات لا نهاية لها، دون أخذ قسط من راحة البال والاسمتاع بما تبقى من لحظات أخيرة!
فكرَ كثير من العشاق باليوم الأول، وفرحوا به، غير أنهم لم يجيدوا التفكير باليوم التالي! وكيف لعاشقين أن يفكرا باليوم التالي! فالعشق إن كثرت حساباته بهُت بريقه:
وإنّي لتعروني لذكراكِ رعدةٌ لها بين جسمي والعظامِ دبيبُ
وما هوَ إلاّ أن أراها فجاءةً فَأُبْهَتُ حتى مَا أَكَادُ أُجِيبُ
أُصرفُ عن رأيي الّذي كنتُ أرتئي وأَنْسى الّذي حُدِّثْتُ ثُمَّ تَغِيبُ وَيُظْهِرُ قَلْبِي عُذْرَهَا وَيُعينها عَلَيَّ فَمَا لِي فِي الفُؤاد نَصِيبُ وقدْ علمتْ نفسي مكانَ شفائها.