لا تموت جرائم نظام الأسد بالتقادم، إذ كلما حاول إخفاء معالم جرائمه أو الأدلة المرتبطة بها، ظهر شاهد عيان يعيده إلى واجهة مجرمي الحرب، فمن الشاهد قيصر إلى محكمة كوبلنز الألمانية ثم الشهود على مجازر الكيماوي أمام لجنة التحقيق الدولية، قصص تملأ سجله الحافل بالانتهاكات.
مدينة حمص التي رشّحتها مجزرة الساعة لأن تكون عاصمة للثورة السورية لم تخل من شهود العيان، ولعل أهم شاهد أدلى بما رآه من مجازر فيها هو الموظف في الطب الشرعي المسؤول عن تكفين ودفن الجثث في مقابر جماعية، وأصبح بمنزلة الشاهد الملك في أوروبا على تلك الجرائم.
الشاهد الملك.. وثّق دفن 1500 معتقل قتلوا تحت التعذيب
في عام 2013 استطاع الشاهد الملك الهرب من مدينة حمص والوصول إلى الأردن محمّلا بما يثبت مكان عمله وبعض ما يوثق مجازر الأسد في مدينة حمص، ليخرج بعدها إلى إحدى الدول الأوروبية بمساعدة أقاربه، ويبدأ رحلة توثيق ما جرى أمام لجان التحقيق الدولية.
يقول الشاهد الملك لموقع تلفزيون سوريا عبر تسجيلات صوتية حصلنا عليها بالتعاون مع فريق التوثيق الذي يتعاون معه إنّه كان يعمل في المستشفى الوطني بمدينة حمص، وكان المسؤول عن دفن الموتى الذين أعدموا على يد النظام السوري، وعن برادات الجثث وهي عبارة عن ثلاث شاحنات مبرّدة كانت مخصصة لنقل الخضراوات، مضيفا أنّ عدد الجثث التي تم نقلها من المستشفى الوطني ودفنها جماعيا في تل النصر تجاوز 1500 جثة.
بين الجثث أطفال ونساء مقطوعي الرؤوس
وأكد الشاهد الملك لموقع تلفزيون سوريا أنّ بعض عمليات الإعدام لمصابين من المظاهرات كانت تتم داخل المستشفى الوطني على أيدي ممرضات وممرضين لهم ارتباطات أمنية، وأسماء هؤلاء العاملين تم توثيقها لدى لجان التحقيق الدولية.
وبعد سيطرة الجيش الحر على المستشفى الوطني، نُقل الشاهد الملك إلى مستشفى عبد القادر شقفة العسكري في حمص، ليتابع عمله في الطب الشرعي، موضحاً أنّه "في المستشفى العسكري كان عدد الجثث أكبر وطريقة قتلهم أبشع، إذ كانت تأتي سيارات الشبيحة محملة بجثث مكبلة ومقطوعة الرأس، مما يعني أنّهم قتلوا من خلال مداهمة للأحياء وذبحهم وليس في معارك بين الطرفين، إذ كان بينهم نساء وأطفال"
ويكشف الشاهد أنّ سيارات دفن الجثث لم تكن تتحرك إلى تل النصر إلا بموافقة من أحد ثلاثة أشخاص هم الطبيب الشرعي بسام المحمد والدكتور سميح العودة وشخص اسمه بهاء وهو نجل النائب العام في مدينة حمص.
فريق التوثيق وجهود في المحاكم الأوروبية
العمل على توثيق جرائم نظام الأسد في حمص كان الشغل الشاغل لفريق التوثيق منذ عام 2014 والعمل مع الشاهد الملك كان أحد الجهود المبذولة لتثبيت شهادته لدى لجان التحقيق الدولية.
يقول الدكتور حسام الدين حزوري الذي يدير فريقاً للتوثيق خلال حديثه لموقع تلفزيون سوريا إنّ العمل مع الشاهد بدأ منذ عام 2019، إذ تم تقديم شهادته أمام لجنة التحقيق الخاصة بجرائم النظام السوري في ألمانيا، وتم تثبيت شهادته واعتمادها وسجّل الملف باسمه واسم المحامي أحمد الموسى ومازال العمل على توثيق الشهادة جارياً أمام اللجان الدولية ومنظمات حقوق الإنسان.
فيما يؤكد المحامي أحمد الموسى أنّهم استطاعوا تقديم الشاهد إلى لجنة التحقيق الدولية الخاصة بسوريا بعد التأمين على حياة الشاهد واتخاذ التدابير اللازمة لضمان أمنه، مضيفاً أنّ الجلسة الأولى استمرت قرابة ثلاث ساعات، حضرها معه كل من المحققة والمترجم والدكتور حسام حزوري.
ولفت إلى أنّ الملف بقي طي الكتمان منذ شهر حزيران 2020 بانتظار رفعه إلى المحاكم المختصة بعد تقديم جهة ادعاء في القضية، وما زال العمل جارياً على إيجاد طرق تضمن تأمين أهالي الضحايا الذين يرغبون بتنصيب أنفسهم كجهة ادعاء شخصية.
المعارضة السورية
عُرض خلال المؤتمر الصحفي الذي عقده الرئيس السابق للائتلاف الوطني "نصر الحريري" في تموز الماضي وثائق تشير إلى الشاهد "فيكتوري" الذي انشق عن الطب الشرعي التابع لنظام الأسد في حمص، إلا أنّه لم يتم التصريح بعد المؤتمر بما وصل إليه الملف.
ويقول عضو في الائتلاف الوطني لموقع تلفزيون سوريا إنه لم تتم مناقشة الملف في الهيئة العامة ولم تعرض الوثائق عليها أساسا، ويضيف أنّ أعضاء الهيئة العامة لم يعلموا بموضوع الوثائق إلا خلال المؤتمر الصحفي.
ويؤكد أنّ هذه الوثائق لم تسلم للائتلاف الوطني وما تزال لدى الرئيس السابق نصر الحريري، لذلك فإنّهم لا يستطيعون متابعتها مع الجهات القضائية إن لم تكن بحوزتهم، فالمتابعة مع لجان التوثيق الدولية والمحاكم الخاصة بجرائم النظام السوري تحتاج للوثائق الأصلية أو لوجود الشاهد "فيكتوري" الذي أعلن عنه رئيس الائتلاف السابق، وهذا ما لا يوجد لدى الائتلاف.
فريق فيكتوري: الائتلاف لم يتواصل معنا
ومن جهتهم يؤكد فريق التوثيق والشاهد الملك أنّه لم يتم التواصل بينهم وبين الائتلاف الوطني ولم تتم مناقشتهم في أمر الشاهد أو طلب التعاون في الوصول إلى المحاكم الدولية، مضيفين أنّ "الإعلان عن هذا الأمر على الإعلام بتلك الطريقة هو إضرار بسير الملف، وتعريض حياة الشاهد وأهالي الضحايا للخطر على اعتبار أنّ قسما منهم مازالوا يقيمون في مناطق سيطرة نظام الأسد".
رأي قانوني
في القضايا الجنائية المرتبطة بالانتهاكات وحقوق الإنسان تعمد المحاكم إلى منع تداول الوثائق على وسائل الإعلام لحمايتهم وحماية العملية القضائية.
ويقول المحامي المهتم في مجال الدفاع عن حقوق الإنسان أنور البني، في حديثه مع موقع تلفزيون سوريا إنّ الإعلان عن مثل تلك الجرائم لا يكون بطريقة كشف الأدلة وكشف الشهود أمام الإعلام، فهذه الطريقة تهدد الشهود وتهدد الأدلة أيضاً، كان يمكن الإعلان عن وقوع الجرائم ووجود أدلة ووثائق على ذلك دون عرضها على الإعلام، لأنه يعتبر مسألة خطيرة ومؤذية للعملية القضائية.
ويضيف أنّه من يمتلك أدلة وقرائن وشهودا من هذا النوع، يجب في البداية أن يبحث عن الجهة القضائية التي توثق أو تستفيد من تلك الأدلة إما ضمن عملية قضائية أو تقارير حقوقية أو تقارير أممية، وبالتالي فمن المفروض أن تقدم تلك الأدلة إلى لجان التحقيق المشكلة من قبل الأمم المتحدة أو إلى الجهات القضائية المهتمة بفتح الملفات وتحريكها ضد مجرمي الحرب والمجرمين ضد الإنسانية.
ويتأسّف "البني" أن المدعين العامين والجهات القضائية تسمع بالتصريحات عن طريق الإعلام وتبدأ تبحث عن الجهة التي أعلنت وتطلب منها الوثائق، وهذا ما حصل بالنسبة لموضوع الإعلان عن هذه الجرائم، حيث بدأت الجهات القضائية البحث عن وسيلة للحصول على تلك الوثائق "هذا إن كانت موجودة كما ادّعى من أصدر تلك التصريحات" ويجب عليه المبادرة لتزويد الجهات القضائية والجهات الدولية بتلك الوثائق.
يواجه الأسد شكاوى جنائية في الولايات المتحدة الأميركية والسويد وألمانيا وعدد من دول العالم بسبب جرائم حرب ارتكبها بحق شعبه منذ انطلاق الثورة السورية عام 2011 وتلك الجرائم تختلف من التعذيب والقتل في السجون إلى استخدام السلاح الكيميائي، ولعل المجازر في مدينة حمص لا تقل بشاعة عن جرائمه الأخرى، وهذا ما يضعه في خانة مجرمي الحرب الذين ذكرهم التاريخ، وعلاوة على ذلك فإنّ الصلاحيات المطلقة التي أعطاها لمؤيديه فتحت باباً لأن تكون جرائم القتل قائمة على أساس طائفي كما جرى في مستشفى حمص الوطني (بحسب الشاهد الملك) وهذا ما أسّس لعمليات هروب وتهجير جماعية خوفاً على حياة الأهالي، وتلك جريمة ممنهجة تضاف إلى جرائمه التي بات من الصعب حصرها وإحصاء ضحاياها.