تحاول المجتمعات إعادة بناء نفسها من جديد، والانتقال من تاريخ عنيف اتسم بانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وارتُكِبَت في حقه أبشع الممارسات القمعية سواء في سياق النزاع المسلح أو غير ذلك من السياقات الأخرى.
تبرز تساؤلات بالغة الأهمية تتناول كيفية الاعتراف بالانتهاكات ومنع تكرارها، وتلبية مطالب العدالة، واستعادة نسيج المجتمعات المحلية الاجتماعي، وبناء سلام مستدام.
والعدالة الانتقالية هي نظام يجب السعي إليه وبذل كل ما يلزم كي تنجح المجتمعات في التعامل مع مثل هذه الموروثات الصعبة، وتطوّر أدوات مختلفة من أجل تحقيق هذه الغاية.
لتطبيق العدالة الانتقاليّة لا بد من آليات المحاسبة والتعويض للتخلص من إرث الماضي من انتهاكات حقوق الإنسان عبر تطبيق معايير حاسمة وصارمة في احترام حقوق الإنسان
فالعدالة الانتقالية هي مجموعة التدابير القضائية وغير القضائية التي قامت بتطبيقها دول مختلفة من أجل معالجة ما ورثته من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان؛ وتتضمّن هذه التدابير الملاحقات القضائية، ولجان الحقيقة، وبرامج جبر الضرر وأشكال متنوّعة من إصلاح المؤسسات، وبالنظر إلى الوضع السوري، نجد أنّ الدولة السوريّة تسببت فعلاً في انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان (القتل، الاغتصاب، الاختفاء القسري، مصادرة الممتلكات... إلخ).
ولتطبيق العدالة الانتقاليّة لا بد من آليات المحاسبة والتعويض للتخلص من إرث الماضي من انتهاكات حقوق الإنسان عبر تطبيق معايير حاسمة وصارمة في احترام حقوق الإنسان عند بدء عمليّة تطهير وإصلاح مؤسسات الدولة (الأمنيّة بشكل خاص) فيمكننا تفادي حصول انتهاكات مستقبليّة لحقوق الإنسان.
وعند الحديث عن تطبيق آليات العدالة الانتقالية في سوريا، تواجهنا عدّة معضلات جوهريّة للمجتمعات السوريّة، أهمها أن المجتمع السوري متعدد البنى الاجتماعيّة، وتختلف الانتهاكات بين منطقة وأخرى.
فالوضع مثلاً في محافظة الحسكة وريف دمشق تعرض لانتهاك صارخ لحقوق الملكيّة (الاستملاك والمصادرة) سواء من النظام أو قوات قسد، وكذلك حالات وضع اليد على الممتلكات الخاصّة للسكّان وهذا كان بعموم المحافظات المنتفضة، وتفسّر هذه الإجراءات بأنّها محاولة من النظام الديكتاتوري بتغيير التركيبة السكانية لدوافع سياسيّة - فئويّة (طائفيّة أو قوميّة)، وبالتالي فإنّ هذا التغيير يستهدف الوجود القانوني والفيزيائي للضحايا على الأرض، كمجموعات بشريّة مختلفة عن "المستوطنين"، خاصّة في مناطق التماس بين المكوّنات السوريّة.
كما أن هناك مسألة زمن الانتهاكات فالمجازر في حلب وحماة حدثت في الثمانينات من القرن الماضي ثم تكررت الآن وأذكر مثالين فقط على سبيل المثال (في حلب مجزرة المشارقة في الثمانينات وفي الانتفاضة السورية مجزرة النهر).
لكن هنا يكمن تحدٍ حقيقي: هل هناك قدرة لأجهزة الدولة تحت سيطرة النظام الحالي على تحقيق العدالة.!!
هذه مسألة مستحيلة؛ فلا يمكن أن يكون الخصم هو الحكم، فاستشراء الفساد والمحسوبية في الجسم القضائي منذ بدايات صعود النظام وحتى الآن، ومحاكمة قطاعات واسعة من المعارضين للنظام أمام محاكم تتّبع إجراءات مسيّسة، أفقدت السلطة القضائيّة استقلاليتها، وبالتالي ثقة غالبية الشعب فيها ضئيلة، وبقدرتها على تحقيق العدالة إذا ما تمّ الاحتكام لهذا القضاء.
كما أنّه بالطرف المقابل عدم قدرة المعارضة حتى الآن على إنشاء بديل حقيقي للنظام في المناطق التي تسيطر عليها، بديل يؤمّن الأمن الأساسي للمواطنين ويمكن أن يكون له دور في العدالة الانتقالية، وتتزايد الهوّة بين المجتمع وحكم القانون، فتطبيق حقيقي وشامل لآليات العدالة الانتقاليّة في المرحلة الراهنة أمر في غاية الصعوبة، إلا أنه يمكن اتخاذ خطوات فعالة تمهد الطريق لهذه الآليات للعمل مستقبلاً. فالعدالة الانتقالية تحوي، بالإضافة للإجراءات القضائيّة، إجراءات غير قضائيّة، والمقصود بها هو "التعويض، جبر الضرر، إصلاح المؤسسات، تخليد الذكرى... إلخ"، وهناك كثير من العمل الذي يجب القيام به قبل الوصول لموضوع العدالة الانتقالية؛
فيعتبر التوثيق من المداخل الرئيسية لتطبيق آليات العدالة الانتقالية، القضائيّة وغير القضائيّة معاً، فيعمل التوثيق على تحديد من هم الضحايا، وما هي درجة تعرضهم للانتهاكات، كما أنّه يحدد في كثير من الأحيان الجناة أيضاً. لذلك فمن الضروري البدء من الآن بالتوثيق العلمي للانتهاكات، وحتّى مراجعة التوثيقات الماضية من أجل تدعيمها بالأدلة، ولكن، وبسبب وجود كثير من الجهات التي تمتهن التوثيق، إما كجهات مستلمة للوثائق، أو جهات موثّقة تفتقد ربّما للمصداقيّة الاجتماعيّة، نجد أن الطريقة المثلى للتوثيق أن تتمّ عبر آليات نابعة من المجتمع، وتتقبّلها القوى الاجتماعيّة والسياسيّة الموجودة في المنطقة، لتحقيق غايتين رئيسيّتين:
- زيادة ثقة المجتمع المحلي بآليات التوثيق، وبالتالي توثيق انتهاكات أكثر عدداً وأشدّ خطورة.
- ضمان عدم ضياع الوثائق مادياً وقانونياً، أي حماية قيمتها القانونيّة من كل المشكلات التي يمكن أن تفقدها المصداقيّة أما المحاكم بكل أشكالها، كالانقطاع في "سلسلة الحيازة"، أو بيع بالوثائق.
لا بدّ من وجود قناعة لدى العاملين في هذا الشأن بأنّ العدالة الانتقاليّة ليست قالباً جاهزاً يتم تطبيقه على المجتمعات، إنما هي آلية تفاعليّة تتناسب مع الحالات
فالعدالة الانتقاليّة بوصفها أساساً فكرة حديثة في العالم بشكل عام، وبالأخص في الشرق الأوسط، لا بدّ وأن تلاقي بعض المعارضة قبل تبنّيها من المجتمع، ولا بدّ من أن تشكّل حلاً حقيقيّاً للمشكلات التي تستهدفها في ذهنيّة المجتمع حتى يتقبل العمل بها، وللوصول إلى هذا الحد لا بدّ من دراستها بشكل جوهري ومعرفة طريقة ملائمتها للحالة السوريّة، وكذلك العمل على نشر الوعي بالعدالة الانتقاليّة ضمن الفئات الاجتماعية الفاعلة. ولا بدّ من وجود قناعة لدى العاملين في هذا الشأن بأنّ العدالة الانتقاليّة ليست قالباً جاهزاً يتم تطبيقه على المجتمعات، إنما هي آلية تفاعليّة تتناسب مع الحالات، ولا بد من المساهمة في نشر مفاهيمها الحقيقيّة بالطرق المناسبة، والابتعاد عن العواطف السلبيّة أو الإيجابيّة تجاه حالة التغيير القائمة في سوريا، فالتأسيس لمجتمع تتحقق فيه العدالة والسلام يتبعه جهود وخطوات تُشعر الجميع بمستوى من العدالة تصفو لها النفوس وتتطلع لمستقبل أفضل.