إذا كان فلاسفة كهوبز وجون لوك قد قالوا بالحقوق الطبيعيّة التي منها "الحريّة" ثم اختلفوا لاحقاً في معالجة تلك الحريّة بوصفها شرّيرة أو خيّرة؛ فإنّ مفكرا معاصرا كالدكتور عزمي بشارة في كتابه "مقالة في الحريّة" يعتقد أنّ "الحق الطّبيعي" -والحريّة كحق طبيعي ضمنا- إنما هو علمنة لموضوعة "الحق الإلهي" ويشترك معه في تصور عدل متجاوز للواقع، والدكتور بشارة يريد معالجة الواقع لذلك ينفي كون الحريّة معطى طبيعيّاً، بل تاريخياً تمّ إنجازه عبر حريّة العقل والإرادة؛ فالطير -بهذا المعنى- ليس حرّا؛ لعدم توفر الوعي والإرادة الحرّة لديه.
أمّا الحرية التي يريد الدكتور بشارة تعيينها فهي: قدرة الإنسان الفرد المستقل على التمييز بالعقل والاختيار الحر بالإرادة؛ حيث يكتسب الإنسان الحرية بنمو الوعي والإرادة، وهي من جهة أخرى: صيرورة تبدأ باكتساب القدرات العقلية والإرادة، وشرط التحرر هو وعي الحاجة إلى الحريّة.
يضيف: (الحريّة -كحريات اختيار- موضوع خطير ومصيري للإنسان والمجتمع بين تحديد الحريات كقيمة ومعيار تقاس أخلاقية الفعل بموجبها، وبين وعي الإنسان بالخيارات ومخاطرها وعواقبها ضمن معطى تاريخي، وبين الإضرار بقضية الحرية ذاتها فالحرية مسؤوليّة لأنّ الخيار مسؤوليّة).
ويستعير د بشارة وصف الفيلسوف الألماني "هيغل" للثورة الفرنسيّة باعتبارها "حريّة سالبة" ركّزت على الإطاحة بالطغيان بوصفه عائقاً، ثم تمركز مفهوم الحرية عند إرادة قليلين من أصحاب المروءة كي تُفرض الحرية على كثيرين تعددت آراؤهم وتقاطعت بشكل ضيّع أهداف الثورة. وهنا أدى فرض الحرية بواسطة قليلين إلى طغيان! لذلك يرى الدكتور أنّ "الحريّة الموجبة" التي -لا تهتمّ بتعيين العائق لإزاحته فحسب بل بتحديد البديل المختلف - يقول: هي (مرهونة بشرطها الإنساني المتمثل بالوعي والإرادة).
خلال الإجابة على مثل هذا السؤال يستذكر الدكتور بشارة تلك الجدلية بين مصلحة السلطات المستبدة بتهديد الاستقرار وسحب البلد إلى حرب أهلية وبين ضرورة توفر نخب معارضة على قدر من المسؤوليّة والوعي
لكن ماذا لو لم نكن قادرين على بلوغ ذلك المستوى من الوعي والإرادة الحرة المستقلة -ما يعني عدم قدرتنا على بلوغ مستوى المسؤوليّة تجاه خياراتنا السّياسيّة- بماذا نبدأ؟ بممارسة الحقوق المدنيّة والسّياسيّة أم بالتثقيف وانتظار تجذّر الوعي العقلاني بحرية الإرادة؟
خلال الإجابة على مثل هذا السؤال يستذكر الدكتور بشارة تلك الجدلية بين مصلحة السلطات المستبدة بتهديد الاستقرار وسحب البلد إلى حرب أهلية وبين ضرورة توفر نخب معارضة على قدر من المسؤوليّة والوعي؛ وهو ما لم يتوفر لنا في الحالة السورية، لكن الدكتور بشارة يعوّل في النّهاية على أنْ تبدأ "النخب السياسيّة" بممارسة ديمقراطية نزيهة مع إتاحة الفرصة للناس للمشاركة في صُنع القرار.
لكن ماذا نفعل -نحن السوريين - إذا كانت نخبنا لا يتوفّر فيها شروط "الإرادة الحرّة" المرهونة بالاستقلال؟!
لا تتوفر في الكتاب إجابة عن مثل هذا السؤال لكن ربما يمكننا في ضوء الكتاب أن نتكهّن إجابة من مثل: هذه إذاً ليست النخب المقصودة.
ما يميز طرح الدكتور بشارة أنّه طرح لا يدعو إلى الاستكانة بذريعة أنّ قيم الحريّة والمساواة هي معطيات طبيعيّة يمكن الحصول عليها دون بذل جهد، إنّما في كون هذه المعطيات قيماً تحتاج إلى التّحقيق في سياق تاريخي وفي ضوء "العدالة الاجتماعيّة"؛ ما يضع النخب بوعيها وحريّة إرادتها -استقلالها- أمام مسؤوليّة العمل!
لكن- ومن جهة أخرى- هل من العدل اتّهام الشارع السوري بعدم وعي الخيارات السياسية؟
لعلّنا لا نبتعد عن واقعنا إذا اعترفنا أنّ الشارع السوري الذي هتف -في مطلع ثورته- للحرية وللكرامة كان قد خضع خلال العقد الأخير لسيرورات عديدة ومختلفة، فرغم أنّ الجميع هتف شعارا سياسيا من مثل "واحد واحد؛ الشّعب السوري واحد" عام 2011 ما كان يمكن فهمه وقتها في سياق الرد على اتّهامات النظام للسوريين بعدم استحقاق السّوريين للحريّة، وفي سياق الرد على محاولات أجهزة النظام تطييف الشعب السوري والدفع به إلى أتون حرب أهلية تضع السوريين أمام خيار "التنازل عن مطلب الحريّة مقابل الاستقرار والأمن، أو الفوضى" وهذا ما تفعله الأنظمة المستبدّة عادة كما يؤكّد الدكتور بشارة في كتابه؛ إلّا أنّ الحرب قد وقعت على أيّة حال، وثبت أنّ المعارضة لم تحمل وعياً ولا همّاً وطنيّاً كما تمنّى بشارة في كتابه؛ فوصلنا إلى حقيقة: فشل مجتمعاتنا بالبقاء مستندة إلى مرجعيّة -أو مزاجٍ واحدٍ - في تفسير العدالة الاجتماعيّة للتعبير عن المساواة، فظهرت مرجعيّات عديدة كلّ منها تفسّر العدالة بطريقتها؛ مع بقاء النظام -العائق الأوّل- وحده ينافق بالمشاعر الوطنية؛ غير الصادقة، وبالمواقف السياسية التي تدّعي الوطنيّة وتمارس كلّ أشكال الفتك بقيم الوطن والوطنيّة!
ما يميز سيرورة أهلنا في السّويداء -على سبيل المثال- عن غيرهم من أبناء سوريا الجريحة أنّهم -والحمد لله- لا يزالون فئة سوريّة ناجية -نسبيّا- من كارثة الحرب الأهليّة وتداعياتها، لذلك فهم منسجمون مع أنفسهم حين يرفعون شعار "واحد واحد الشّعب السوري واحد" لا شعاراً عاطفيّاً فحسب -برأي الكاتب- بل وسياسيّاً أيضاً، ما يعني أنّهم لا يزال بإمكانهم "تعريف هويّتهم من خلال البعد الوطني" كما افترض بشارة في كتابه عن العلاقة التّبادليّة بين الهوية الفرعية والوطنيّة، وفي حين أنّ وعي الحريّة والمساواة مهم دون شك لكنّ غياب تأثير العقلانيّة في مجتمع سوري آخر -غير جبل العرب- قد لا يكون نتيجة الجهل بالحريّة فقط؛ بل قد يكون نتيجة للمجازر التي تُفقِد الواعين عقولهم؛ فيجنحون إلى غير الوعي والعقل لمقاومة آلامهم أو للتعبير عنها، ولعلّ هذا الفصل شديد الواقعيّة يعرفه كثير من السّوريين الموجوعين، ويحتاجون -لا إلى اتّهام وعيهم- إنما إلى معالجة وعي ما بعد الكارثة!
على أنّ سلامة السّويداء -نسبيّا- من كارثة الحرب السورية فأل جيّد على السّوريين الآخرين – حتى الموجوعين منهم - خاصة على المتحمّسين لوحدة سوريا -وهذا حق بالمناسبة- وعلى أيّة حال ربّما من المهم للمتحمّسين لوحدة سوريا أيضاً عدم اعتبار "الوحدة" معطى طبيعياً حاصلا في نهاية الأمر خاصة بعد أنْ أخذت الحرب من السوريين مبلغها؛ وفي ضوء مقولات د بشارة لعلّنا نحتاج إلى إنجاز "الوحدة السّياسيّة" في ضوء صياغات جديدة دائماً عن الحريّة والمساواة والعدالة الاجتماعيّة.
حريّتنا الموجبة -إذا كان هدفها تحقيق الحريّة والكرامة لجميع السّوريين- فربّما ينبغي لها أن تبدأ بممارسة خيارها ضمن مشاريع سياسيّة مسؤولة ووطنيّة
ولعلّنا لا نكون قد بالغنا إذا زعمنا أنّ غالبيّة السوريين باتوا اليوم على يقين تام بأنّ نظام بشار الأسد يشكل عائقاً أمام حريّتهم السّالبة؛ ما يعني توحد السّوريين -بنسبة جيدة- حول هذا التعيين بالذّات، لكن الأمانة تقتضي منّا أيضاً أن نعترف بأنّ ثمة عوائق أخرى كذلك؛ لكن بحال من الأحوال ينبغي مقاومة اعتبار "فئة سوريّة" عائقاُ؛ إذ هذا يعني أنه يخدم الحرب الأهليّة لا ثورة الحريّة.
في حين أنّ حريّتنا الموجبة -إذا كان هدفها تحقيق الحريّة والكرامة لجميع السّوريين- فربّما ينبغي لها أن تبدأ بممارسة خيارها ضمن مشاريع سياسيّة مسؤولة ووطنيّة -فلا تُلغي فئة من السّوريين- وليبراليّة أيضاً تضمن حقوق الأفراد عبر إنجاز صيغة أو صيغ متعدّدة من "الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعيّة"؛ وربّما لو حلمنا بمعجزة من قبيل: بناء تحالفات سّياسيّة استنادا إلى ورقة "حقوق الإنسان السّوري" كإطار مبدئي لتحديد توجّه حريّاتنا الموجبة؛ فحينذاك يمكننا القول: إنّ اختلافنا في وجهات النظر غنى وقوّة ورحمة.
على أيّة حال فإنّ كتاب "مقالة في الحريّة" الصادر سنة 2017 للدكتور عزمي بشارة يدعونا للعمل على تحقيق الحلم بالحريّة عبر العقل والإرادة الحرّة المستقلّة.