تريد الولايات المتحدة الأميركية الردَّ على الهجمات المتكرِّرة ضدَّ جنود قواتها في العراق وسوريا، لكن في الوقت نفسه تريد تجنُّب الدخول في حرب أوسع مع إيران، فإدارة الرئيس الديمقراطي جو بايدن، كان لها هدفان من خلال هذه الضربات التي شكَّلت انحداراً عسكرياً خطيراً على مستوى المنطقة، منها ما له علاقة بتوقيت هذه الضربات، ومنها ما له علاقة بأهدافها، لكن الأهم هو أن الضربات العسكرية الأميركية في العراق وسوريا للفصائل المسلحة الموالية لإيران، لن تمنعها من شنِّ ضربات جديدة على أهداف أميركية، وهو ما يجعل الرئيس الأميركي جو بايدن في وضع مربك، لإيجاد توازن بين الردع والتصعيد.
فمن الواضح أنَّ واشنطن باتت أمام انكشاف كبير في ظل سياسات عمياء، تتفلَّت من أيديها أوراق الصراع والنفوذ، خصوصاً ما يجري على البحر الاحمر وبعد أن هدَّد الحوثيون في اليمن، بقطع كابل الألياف الضوئية الذي يمتد على طول قاع البحر الأحمر، إذا هاجمت الولايات المتحدة والمملكة المتحدة المطارات اليمنية مرة أخرى، وهذا تهديد خطير جداً، حيث إن هذا الكابل يغذي قنوات الاتصال الرابطة بين أوروبا وإفريقيا والشرق، وإذا تعطلت فسوف يؤثر ذلك على الاستقرار الجيوسياسي والأسواق المالية العالمية وأمن المعلومات، إذ أن أكثر من 99% من حركة الإنترنت في العالم وأكثر من 80% من خطوط الهاتف الدولية تمر عبر هذه الكابلات البحرية.
هذا التخبُّط والحِيرة التي تحكم فريق الإدارة الأميركية في البيت الأبيض، أراد بايدن من توقيت الضربات العسكرية على الفصائل المسلحة في سوريا والعراق وقواعدها العسكرية إيصال رسائل محددة، في الوقت الذي كان يستقبل فيه الرئيس جثامين الجنود الأميركيين القتلى بنفسه، وهو عمل انتخابي بامتياز، أيضاً، إن توقيت هذه الضربات جاء بعد إقفال البورصات الأميركية ليل الجمعة والسبت، حتى لا تتأثر أسواق الأسهم والسندات وعمليات بيع عقود النفط والطاقة.
جاءت هذه الضربات التي أرادها بايدن ليؤكد في الوقت نفسه أنه يقف إلى جانب حكومة نتنياهو وسياساته، بعد الضغوطات الكبيرة التي تعرَّض لها من الداخل الأميركي ومن العرب والمسلمين وفي أوروبا
أما لناحية أهداف هذه الضربات، فهي للقول والتأكيد، وللرد على اتهامات الجمهوريين بأنَّ الرئيس بايدن جبان وضعيف، وهو من فرَّط بقوة وهيبة الولايات المتحدة حول العالم، ويريد إثبات أنه قادر على استعادة هذه الهيبة والمكانة، وكذلك للقول إن الإدارة الأميركية لم ولن تترك حلفاءها التقليديين من العرب والخليجيين، الذين مالوا عن السياسات الأميركية وفتحوا مسارات لتحالفات باتت تُغضِب واشنطن ومشاريعها، والقول إنها قادرة على ردع أدوات طهران أينما كان، خصوصاً بعد حرب غزة وتورُّط إدارة بايدن مباشرة في هذا الصراع، من دون إيجاد أية حلول في الوقت الراهن، وكذلك جاءت هذه الضربات التي أرادها بايدن ليؤكد في الوقت نفسه أنه يقف إلى جانب حكومة نتنياهو وسياساته، بعد الضغوطات الكبيرة التي تعرَّض لها من الداخل الأميركي ومن العرب والمسلمين وفي أوروبا.
لكن رغم كل ذلك، من الذي يمنع أن لا تتوسَّع هذه الضربات في حال استمرت، أو توسَّعت الحرب، وهي اليوم في مسارها التصعيدي؟ فلن تقدر واشنطن بعد الآن وحدها على ضبط المشهد الإقليمي في منطقة الشرق الأوسط، بل إن نتنياهو قد ورَّطها فعلاً في حرب لا يبدو أفقها واضحاً، وسْط انهزام كبير وتطويق عابر للبحار والقارات، واضطراب في سلاسل التوريد والتسبُّب في انقطاع الأمن الغذائي والطاقوي حول العالم، وهذا ما تسبَّب به نتنياهو وحكومته اليمينية المتطرفة، التي لا تزال حتى الآن رافضة لأي مشروع تسوية، يُعيد الحق الفلسطيني المسلوب ويُخرج واشنطن من أزماتها المتلاحقة. وبناء عليه، وبسبب تراكم هذه الأخطاء في السياسات الخارجية لواشنطن مالياً واقتصادياً ونفطياً ودولارياً، ورفعاً للفوائد المصرفية، فإنه بإمكان الدول الصاعدة بالتحديد الجنوح والكف عن الرهان على الإدارة الأميركية، والبدء برسم سياسات وتحالفات استراتيجية مع الصين وروسيا وأوروبا بحكم الواقع الاقتصادي المُتاح، وما يساعد في ذلك هو الانقسامات التي باتت حادة داخل أميركا، والتي صارت تهدِّد بيئات العمل الديمقراطي وتنظيم الأحزاب وتداول السلطة.
لكن اللاّفت، هو حجم الإدانات الذي جاء وكان مفهوماً من قبل بغداد ودمشق لهذه الضربات، لكن الإدانة الإيرانية وتنديدها بـ"انتهاك لسيادة سوريا والعراق"، بحسب المتحدث باسم الخارجية الإيرانية ناصر كنعاني، كما دعوة موسكو إلى اجتماع طارئ لمجلس الأمن الدولي، أشارت مصادر دبلوماسية، إلى أنها كانت مبْعَث سخرية كبيرة، بالنظر إلى حجم الانتهاكات المرتكبة من قبل طهران وموسكو لسيادة كل من سوريا والعراق، وبالتالي جعل دول العراق وسوريا تقف عاجزة عن أي فعل يستبيح سيادتها وأراضيها، وهذه هي الإرادة الدولية والمصالح الإقليمية التي ترغب في إضعاف وتفتيت وحدة هذه الدول في المنطقة، وتقديمها لقمة سائغة على طبق طاولة المفاوضات مع واشنطن، أو لتقاسم النفوذ السياسي والأمني والاقتصادي مع روسيا.
الإدارة الأميركية تقوم بكل ما في وسعها لتتجنب الدخول في حرب أوسع مع إيران، لهذا السبب، لم تضرب أية أهداف داخل إيران
في موازاة ذلك، تشنُّ ضربات أميركية_بريطانية على أهدافٍ للحوثي في اليمن، الذين هاجموا السفن التجارية في البحر الأحمر، ولهذا تؤشِّر كل مراكز الدراسات الاستراتيجية والدولية، إلى أن إدارة بايدن تحاول السير على خيط رفيع مع الضربات التي شنتها على العراق وسوريا، فهي من جهة تريد إنهاء الهجمات لتقول إن هناك ثمناً يجب دفعه مقابل قتل جنود أميركيين وتقويض قدراتهم على تنفيذ مزيد من الهجمات في المستقبل، ومن جهة أخرى، تريد الإدارة الأميركية تجنُّب التصعيد الذي قد يؤدي إلى حرب شاملة في الشرق الأوسط، من دون أن توجد أية ضمانات تؤكد بأن هذه الحرب لن تتوسَّع أكثر، فالإدارة الأميركية تقوم بكل ما في وسعها لتتجنب الدخول في حرب أوسع مع إيران، لهذا السبب، لم تضرب أية أهداف داخل إيران، وهذا معناه، أنَّ هناك تخادماً واضحاً بين الطرفين للإبقاء على المصالح المشتركة في ضرب حركات التحرر الوطنية وسيادة الدول العربية، لمنعها من القيام بأي أدوار إقليمية مستقبلية، ومشاريع اقتصادية، يمكن لها أن تفيد منها شعوب المنطقة، في ظلِّ التبدل في علاقات الإنتاج العالمية.. فهي سياسات باتت مكشوفة في طهران وواشنطن، وما على العرب إلاَّ التنبُّه لها، والسير بما يعزِّز سيادة دولها.