"في سباق التوثيق والتأثير، تحجز الصورة لنفسها المكان المتقدّم، متفوقةً على الكلمة. تُحسن الصورة التصرف أكثر من أيّ رواية، فتنطق بآلاف الكلمات. وقد تهز صورةٌ واحدةٌ العالمَ بأسره من دون الحاجة إلى اللغة التي قد يحاول كاتبُ النص من خلالها وصف المشهد البادي في الصور... لكن الصورة، وإن خُلِّدت في الذاكرة، فإنّ قصتها قد تُنسى، فتضيع الحقائق، وتلتبس مع مرور السنين، وتتعدد روايات التاريخ غداً".
بهذه الكلمات قدمت قناة "الميادين" مسلسلها الوثائقي "الصورة قصة"، الذي يتكون من عشر حلقات، عُرضت منها ست حلقات حتى اليوم. ويدعي صناع المسلسل بأنهم اختاروا الصور العشر الأكثر تأثيراً وثباتاً في ذاكرة السوريين كلّهم على اختلاف مواقعهم ومواقفهم من "الحرب"، ليحكوا قصة كل صورة بحيادية، عبر الانتقال إلى مكان حدوثها والبحث عن الشهود والروايات على لسان أصحاب المكان وأبناء الأرض!
من خلال هذه السردية، تحاول "الميادين" أن تعبث بذاكرة السوريين فعلياً، لتقدم روايات مشوهة عن صور ألفها السوريون، كصورة "طفل الحقيبة" و"طوفان مخيم اليرموك" وغيرها، لتقلّب الحقائق وتعيد سرد القصة بغية تلميع صورة نظام الأسد، رغم ادعاء الحياد؛ لتحاول أن تخلق رواية مضادة تجابه بها الأفلام الوثائقية التي أنتجتها المعارضة السورية والتي اجتاحت المهرجانات العالمية.
الصحافية زهراء فارس، التي أعدّت حلقات السلسلة الوثائقية وتنفيذها، اعتمدت على العديد من الحيل لتتمكن من قلب معاني الصور، التي سبق وأن استخدم معظمها كوثائق على جرائم النظام الوحشية وانتهاكاته ضد شعبه. يمكن تلخيصها بالآتي:
- تحافظ زهراء فارس على السياق التاريخي والجغرافي الذي التقطت فيه الصورة، لتحدد بشكل دقيق الزمان والمكان الذي التقطت فيه وانتشرت، لكنها تنسف بشكل كامل كل السياقات التالية، رغم اعتمادها على صور يألفها السوريون جيداً، وتم تداولها وسرد حكاياتها في وقتٍ مضى؛ فالتعليق يبداً من الصورة وكأنها صورة تُكشف للمرة الأولى. من خلال هذه الحيلة، تتمكن فارس من وضع نفسها في خانة تبدو فيها محايدة، لتسرد القصة بأسلوبها الخاص دون أن تضطر لممارسة اللعبة ذاتها التي يمارسها إعلام النظام السوري على الدوام، والمتمثلة بمسرحيات كشف الحقائق ومواجهة الروايات السائدة بروايات مضادة؛ لتحاول بذلك أن تمحو جزءاً كبيراً من الذاكرة السورية وإعادة رسمه بالطريقة التي تحلو لها.
الانفراد بالقدرة على الوصول إلى المكان يتيح لمحطة "الميادين" إمكانية إعادة تشكيل الفضاء بما يتوافق مع الروايات التي يتم اختلاقها؛ يشمل ذلك القدرة على تغيير المعالم الديموغرافية في المكان وإعادة تشكيله بصرياً بما يتوافق مع خلاصة الرؤية السياسية
- الحيلة الثانية ترتبط بالإمكانات التي يمتلكها إعلام النظام السوري والتي لا تمتلكها المعارضة، وخصوصاً الأماكن التي جرت بها الجرائم الموثقة بالصور، والتي عادت لسيطرة النظام، والوصول إليها صار أشبه بالانتحار بالنسبة لمخرجي الوثائقيات المعارضين للأسد؛ فالانفراد بالقدرة على الوصول إلى المكان يتيح لمحطة "الميادين" إمكانية إعادة تشكيل الفضاء بما يتوافق مع الروايات التي يتم اختلاقها؛ يشمل ذلك القدرة على تغيير المعالم الديموغرافية في المكان وإعادة تشكيله بصرياً بما يتوافق مع خلاصة الرؤية السياسية، وأحياناً تكون هذه الملامح البصرية مبالغ بها، كما هو الحال في حلقة "الطوفان" التي تُفرش فيها شوارع مخيم اليرموك بصور بشار الأسد، وتزرع في بيوت المخيم المدمرة عائلات مؤيدة للأسد، رغم أن المخيم لايزال حتى اليوم خارج الخدمة، ولم تصله الخدمات الرئيسية من مياه وكهرباء، ولم تسمح سلطات الأسد بعودة المهجرين منه إليه مجدداً.
- الحيلة الثالثة تتعلق بلغة الخطاب والضمائر المستخدمة في الصياغة اللغوية. الأمر الأساسي الذي نلاحظه في هذا النطاق أن زهراء فارس تستخدم بخطابها لغة تضيع فيها معالم الحقيقة، حيث تُكثر من استخدام صياغة المبني للمجهول، وتتحدث عن آثار الدمار في الصور دون أن تحمّل المسؤولية المباشرة لأي طرف من أطراف النزاع، لتحاول قدر الإمكان أن تتحدث بلغة حيادية، وتلقي بمهمة تلميع صورة النظام على عاتق الشهود الموالين للنظام بالضرورة. وهنا تستخدم حيلة إضافية عندما تتعاطى مع كل ما يذكره الشهود باعتباره حقيقة مطلقة غير قابلة للنقد، ولا تقوم بمواجهة هذه الشهادات بشهادات موازية لها يرويها المعارضون للنظام، الذين غالباً ما تم تهجيرهم قسراً، وحُرموا من الوصول إلى الأماكن التي تصور بها حلقات المسلسل الوثائقي.
- الحيلة الرابعة تكمن بالاعتماد على الأخطاء والانتهاكات التي ارتكبتها بعض فصائل المعارضة، واستثمار آلام العائلات المنكوبة التي مات أبناؤها أثناء خدمتهم لجيش النظام؛ لتعطي هذه الحيلة جرعة عاطفية إضافية، يصعب التشكيك بصدقيتها، كما هو الحال في حلقة "مستشفى ابن النفيس".
هذه الحيل ربما جعلت الحكايات تبدو أكثر تماسكاً، بالمقارنة مع النهج المعتمد في الإعلام السوري الرسمي؛ لكنها بالوقت ذاته لا تبدو كافية للتلاعب بآراء الناس، على الأقل في الوقت الحالي الذي لا يزال الناجون من جرائم الحرب التي ارتكبها النظام على قيد الحياة؛ لكن لا يمكن التقليل من أثرها البعيد أيضاً.