على الرّغم من مواقفه المتميّزة والمشهود له بها في مفاصل مهمّة من تاريخ سوريا والمنطقة غير أنّه لم يحظَ بشهرةٍ كبيرةٍ كغيره من المفتين، وأقصى ما كان يناله من الحديث عنه بضعة أسطر في كتب التراجم تتحدّث عن أشياخه وطريقته الصّوفيّة وغزارة علمه.
الشّيخ محمد شكري بن راغب الأسطواني من عائلات دمشق المرموقة، وقد ولد في نهايات القرن التّاسع عشر، عام 1873م، وتربّى في حلقات العلم عند الشّيخ محمد المنيني والشّيخ بكري العطّار والشّيخ محمد حسن البيطار.
كان والده خطيب الجامع الأموي، غير أنّه توفي ولابنه محمد شكري من العمر ثلاث سنوات فأرسلته أمه كي يتدرّج في حلقات الفقه حتّى أصبح من أهمّ علماء المذهب الحنفي في دمشق، وقد جمع إلى جانب الفقه الغزير الانتماء الصّوفي إلى الطريقة النقشبنديّة، وقد كان ملتزمًا بالطريقة التزامًا تامًا ومعتقدًا برابطتها ومؤمنًا بولاية مشايخها.
-
المفتي الأول في سوريا عن طريق الانتخاب
عُيّن الشّيخ محمّد شكري في دائرة الإفتاء فغدا قريبًا من المفتين ليصبح بعد ذلك أمينًا للفتوى في عهد أكثر من مفتٍ، وقد كانَ أمين الفتوى عند الشّيخ محمد عطا الله الكسم مفتي سوريا، وعند وفاة الشّيخ الكسم عام 1938م عيّن الرّئيس هاشم الأتاسي الشّيخ محمد شكري الأسطواني وكيلًا للمفتي العامّ وبقي منصبُ الإفتاء شاغرًا بسبب انشغال البلاد والعالم آنذاك بظروف الحرب العالميّة الثّانية والتقلّبات السّياسيّة التي شهدتها البلاد نتيجة ذلك.
أصدر الرّئيس هاشم الأتاسي مرسومًا رئاسيًّا بتاريخ الحادي عشر من آذار "مارس" عام 1941م ينظّم شؤون انتخاب المفتي، وبناءً على هذا المرسوم جرت الانتخابات الأولى لتعيين المفتي في سوريا؛ فانتخب الشّيخ محمد شكري الأسطواني مفتيًا بالإجماع ليكون المفتي الأوّل الذي يتمّ انتخابه وذلك في المرحلة التي عرفت في سوريا بالفترة الانتقاليّة من الانتداب الفرنسي إلى الجمهوريّة المستقلّة.
-
إعلان الجهاد ضدّ الفرنسيّين
كان المفتي الشّيخ محمّد شكري الأسطواني من أكثر المناهضين للفرنسييّن ورافضًا وجودَهم على الأرض السّوريّة، ومن أشهر فتاواه الفتوى التي أعلن فيها وجوب الجهاد بالنّفس والمال في مواجهة الفرنسيّين وردّ عدوانهم ووجوب إخراجهم من سوريا، وكانت له تحرّكات واسعة لتحريض الثّوار ومساندتهم لا سيما في فترة المواجهة الكبرى التي انتهت إلى قصف الفرنسيّين العاصمة دمشق في التاسع والعشرين من أيار "مايو" من عام 1945م، وبعد خروج الفرنسيّين من سوريا كان المفتي الأسطواني في مقدّمة المحتفلين في يوم الجلاء؛ جلاء المستعمر الفرنسي عن سوريا في السابع عشر من نيسان عام 1946م، وكان على منصّة الاحتفال إلى جانب رئيس الجمهوريّة شكري القوتلي.
-
فتوى الجهاد المقدّس في فلسطين
من المواقف المهمّة في حياة المفتي الشّيخ محمد شكري الأسطواني أنّه كان من أوائل من أصدروا فتوى رسميّة بوجوب الجهاد المقدّس دفاعًا عن فلسطين ضدّ عصابات الصّهاينة عام 1948م.
كان لهذه الفتوى أثر كبيرٌ في تفاعل الشّعب السّوري الذي توافد متطوعوه من كل المدن والقرى السوريّة للدفاع عن فلسطين وكان في مقدمتهم الكثير من العلماء والمشايخ من التيّارات الفكريّة والمدارس الشرعيّة المختلفة.
في يوم الخامس من نيسان "إبريل" من عام 1949م أطلق الرئيس حسني الزّعيم مفاوضات الهدنة مع "إسرائيل"، بعد أسبوع واحد من تسلمه مقاليد الحكم في سوريا، وقد حاول الزّعيم امتصاص الغضبة الشعبيّة فأعلن أنّ هذه المفاوضات ما هي إلّا استراحة محارب وأنّ الحرب لن تنتهي مع "إسرائيل" وأنّه لن يتخلّى عن الشّعب الفلسطيني.
على الرّغم من كلام حسني الزّعيم إلّا أنّ المفتي الشّيخ محمد شكري الأسطواني أعلن رفضه لهذه المفاوضات مع الصّهاينة وعدّها نوعًا من العدوان على مقدّسات الأمة وحرّض الشّعب السّوريّ على رفضها.
-
الثبات في منصب الإفتاء في وجه العواصف السّياسيّة
في الفترة التي استلم فيها الشّيخ محمد شكري الأسطواني الإفتاء في سوريا من عام 1941م حتى وفاته عام 1955م عاشت سوريا فترة عاصفةً، كان الطّابع الطّاغي عليها هو الانقلابات التي كانت تطيح بالرؤساء وتأتي بآخرين.
في هذه الفترة تعاقب على سوريا قرابة خمسة عشر رئيسًا، غير أنّ أحدًا منهم لم يقم بعزل المفتي الأسطواني من منصبه، على الرّغم من أنّ المفتي الأسطواني لم يكن يداهن الرؤساء المنقلبين وإن كان لا يجابههم بشكل مباشر، وباعتقادي أنّ ذلك يرجع بدرجةٍ رئيسةٍ إلى كونه جاء بالانتخاب لا بالتّعيين، فلو أنّه قد تمّ تعيينه من أحد الرّؤساء الذين تمّت الإطاحة بهم من خلال انقلابٍ عسكريّ لتمّت الإطاحة به كذلك، ولكن مصدر ثباته يكمن في أنّه جاء بالانتخاب من مؤسسة العلماء وهذا لم يجعله محسوبًا على زعيمٍ معيّن فيُخلع بخلعه إضافةً إلى حرص القائمين بالانقلابات على عدم الدّخول في مواجهات مع الحاضنة الشعبيّة التي تمثّل المدرسة الدّينيّة مرجعيّةً رئيسةً لها.
في عام 1955م توفي المفتي الشّيخ محمد شكري الأسطواني وقد ترك وراءه الكثير من الفتاوى العلميّة الشرعيّة، والكثير من المواقف الثوريّة التي كانت ذات تأثيرٍ حقيقيّ في صياغة المرجعيّة الشرعيّة في المجتمع السّوري آنذاك.