الشيطان حينما يبتسم

أفضل ما في مسلسل (ابتسم أيها الجنرال) هو السياق الذي عرض فيه، فقد جاء في خضم لهاث نشاز للتطبيع مع النظام السوري، ومحاولات لتقديمه من جديد متجردا من دماء ضحاياه وخراب بلاده، واعتبار عودة الاعتراف به (زعيما) لسوريا ضرورة تفرضها الظروف المستجدة، بل واعتبار أن مقاطعته وطرده من الجامعة العربية كانت من الأساس خاطئة وغير شرعية.

هذه الدعاية المستفزة طغت على مساحة الأدوات الإعلامية والسياسية لدول التطبيع، وكان من الضروري بالطبع أن يعيد نفس الذين دانوا بشار الأسد بسبب جرائمه العلنية، سرد الحكاية السورية لتكون متجردة تماما من قصص المجازر والبراميل المتفجرة والحصار واعتقال مئات الآلاف وتهجير الملايين ومن التغيير الديمغرافي وتسليم سوريا لإيران ومن تمكين الإرهاب والميليشيات وتصدر الكبتاغون ومن تسميم الفضاء الإقليمي ومن تدمير لبنان. كان من الضروري عند هؤلاء طمس مجازر داريا ودوما والحولة والبيضا وخان شيخون وحلب والتضامن وإعادة إنتاج المشهد بطريقة تسمح باستقبال الأسد أو زيارته دون عقبات أخلاقية.

نظام شيطاني، يحكم بأسلوب العصابة، وبروح الخيانة، والفجور، والارتهان للأجنبي، لا يتعامل مع الوطن إلا بكونه مزرعة

قام المسلسل المفعم الرموز بإجهاض محاولات طمس الحقيقة، بعدما قام ببناء النمط النموذجي للنظام السوري كما هو بغض النظر عن الثورة أو عن المجازر ضد الشعب: نظام شيطاني، يحكم بأسلوب العصابة، وبروح الخيانة، والفجور، والارتهان للأجنبي، لا يتعامل مع الوطن إلا بكونه مزرعة ليس فيها غير ثلاثة أصناف من الناس: الأسياد، وهم العائلة الحاكمة، وعبيد الأسياد، وهم البطانة المتزلفة من عسكريين وسياسيين وإعلاميين ورجال اقتصاد وأمن، وأخيرا خدم العبيد، وهم جموع الشعب أو (الناس) كما دأب الحوار في المسلسل على وصفهم، وهؤلاء هم حرفيا (اللاشئ)، ويتألفون من الملايين الذين ظلوا معظم المسلسل خارج المشهد بعيدا عن أي قرار أو موقف، بلا دور، ولا سطوة، مجرد جموع خاضعة للتنكيل والإفقار بلا حياة ولا مستقبل ولا أثر.

في المسلسل، برز فرات وعاصي رمزين لنهري سوريا، وكأنهما قدرها، لكنهما في حقيقة الأمر ليسا كذلك، هما في واقع الأمر لوثتها، وعارها، هما نمطان للتشبث الدامي بحكمها، مهما كان الثمن، بما في ذلك وضع مقاديرهما للآخر الأجنبي أيا كان، فرنسا أو إسرائيل أو إيران أو روسيا أو أميركا، في حين جرى تقديم النظام العربي، في ذلك، بوصفه مجرد ساعي بريد يوصل الرسائل الأميركية دون أن يكون له من الأمر شيء.

حرب الأخوين ليست هي المهمة هنا، فهي تتكرر منذ قابيل وهابيل، لكن العبرة هي في نظرتهما للوطن، ونزاع الشراكة فيه بعد (وراثته) من الأب الذي بدأ عهده بالخيانة، وأوصى به ابنه، العبرة هي في احتقار هذه (العائلة) للوطن ولكل ما كان خارجها بما في ذلك العبيد من الأزلام والأتباع والموالين، وجميعهم ليسوا غير مجموعات طفيلية يدور سعيها الوحيد في البحث عن دور في ألعاب الخيانة بين الأخوين وفي حملات التنكيل ضد الخصوم، قبل أن يجري التخلص منهم تباعا.

بدأ المسلسل بعرض الفساد الأخلاقي لنخبة الدولة من هؤلاء العبيد. جميعهم كانوا مطعوني الشرف مخدوعين من زوجاتهم الخائنات. وهؤلاء بالذات كانوا هم جنود السلطة وعبيدها المطيعون، ولذا فحينما تبدأ تفاصيل الخيانات وفجور الخصومة بين الأخوين، تزول الصدمة من فساد البطانة، إذا لا يليق بفساد الحاكم وأسرته، غير بطانة فاسدة بلا شرف، ولا نخوة.

امتلأ المسلسل بالكثير من الرموز والعبارات الموحية، وكان مكتوبا بذكاء وجرأة وتعمق في التاريخ سواء لسوريا أو ما يماثلها من دول ونظم حاكمة مستبدة، وقد كانت افتتاح كل حلقة بمقولة لمكيافيللي جزءا من هذا الذكاء، فالمهم ليس الدراما، بل ما وراء الدراما من توثيق تاريخي، يضع نظام دمشق في موقعه الصحيح الذي ينتسب إليه كل من جعل مكيافللي أستاذه وعرابه ومنهم موسوليني وهتلر إلى بشار الأسد وربما آخرين من أمثاله.

خلا المسلسل من أي إشارة للثورة السورية، وربما كان ذلك مفيدا لمنع التشتت، وبقاء التركيز على العنصر الأهم في تاريخ سوريا المعاصر، الذي أنتج كل هذه المآسي، وهو حكم عائلة الأسد، فالمجازر ضد الشعب هي مجرد نتيجة طبيعية لن تتوقف أبدا وتحت أي ظرف، لأن المهم هو بناء النظام والآليات التي تحكمه، والباقي مجرد تفاصيل حتمية بما في ذلك طبعا دائرة الخراب والموت التي لم تخرج منها سوريا منذ أكثر من خمسين عاما. ولتكريس ذلك، خلط المسلسل عامداً على ما يبدو بين صراع حافظ الأسد مع شقيقه رفعت، وبين صراع بشار مع شقيقه ماهر، فصراع السلطة هو نمط متوارث، ما دامت هذه الأسرة تظن أن الوطن مجرد إقطاعية حصرية لها، يجب أن تواصل الاحتفاظ بها بأي شكل وثمن.

الشر ما زال هناك، في القصر الجمهوري، يغدر بمؤيديه وخصومه على حد سواء، ويكسب صمت العالم، بتقديم التنازلات والمزيد منها، كلما تطلب الأمر ذلك

أخيرا لم ينته المسلسل بانتصار الخير على الشر كما يحدث في الأعمال الدرامية عموما، بل بما بدا كأنها ضحكة (انتصار) شيطانية للشر المتجسد في الرئيس، وتلك غير مفرحة للمشاهدين، لكنها واقعية، فالشر ما زال هناك، في القصر الجمهوري، يغدر بمؤيديه وخصومه على حد سواء، ويكسب صمت العالم، بتقديم التنازلات والمزيد منها، كلما تطلب الأمر ذلك، وما زال الشقيق المنفي يتحين الفرصة للعودة والانقضاض على أخيه بدعم أجنبي، أو بموت الضابط (الضمير) الذي فضح كل شيء، وسجن حبيبته، أو بانهيار الحقيقة أمام الخديعة، أو بتحويل الشريف إلى لص. بمعنى آخر انتهى الأمر بتجدد للشر واستمرار له، حتى ليكاد يبدو أنه انتصر، لكن الأهم من ذلك، هو أن المسلسل انتهى إلى فضح الشر وتوثيقه، فذلك هو الجوهري في هذه المرحلة، وتلك هي الرسالة الأساسية من المسلسل على ما يبدو لي.

وما دمنا قد بدأنا بسياق عرض المسلسل، فربما يكون من المهم أيضا أن تكون مقارنة هذا النظام الشيطاني بكل من يؤيده ويتعامل معه ويحاول إعادة إنتاجه، على أنه جزء من تحالف النظراء، فذاك من أولئك، ولن يتحالف مع الشيطان غير الأبالسة، ولا يزكي فاسدا بلا شرف ولا عرض إلا من يقبل بكل ذلك، وكانت تلك عندي الرسالة الأهم، حتى وإن لم يفكر فيها الكاتب.