لفت نظري في مقالة الباحثة المتخصصة بالشؤون الدينية، السيدة ليلى الرفاعي، المعنونة "الشيخ أسامة في الشمال- حرب المرجعيات الإسلامية"، المنشورة في موقع تلفزيون سوريا 13 آب الماضي، استخدامُها كلمة "المحرر" في وصف المناطق الشمالية السورية التي تسيطر عليها قوى الجيش الوطني المدعومة من تركيا، أو هيئة تحرير الشام.
إن تسمية "المحرر" ليست جديدة علينا، فهي تستخدم منذ سنة 2015، حينما غادرت قوات النظام مدينة إدلب، ودخلتها فصائل إسلامية مسلحة أطلقت على نفسها اسم "جيش الفتح"، ولكن المستغرب أن تستخدم الباحثة ليلى الرفاعي مصطلح "المحرر" على هذه المناطق، دون أن تضيف واحدة من العبارات التي يستخدمها الباحثون الحريصون على الموضوعية ودقة التعبير، من قبيل: ما يُسمى، أو ما يُصطلح على تسميته بـ "المحرر".. إلخ.
تعالوا نبحث عن ماهية هذه التسمية، أو أسبابها الموجبة إن وجدت.
لنسلم، أولاً، بأن الجيش السوري أُسس في أربعينات القرن العشرين، وسُلّح، وطُوّر، وصُرفت عليه مليارات الدولارات من مال الشعب السوري لغرض واحد، هو حماية البلاد من الأخطار الخارجية، والمفروض بهذا الجيش، ألا يغادر ثكناته إلا لصد عدوان ما، أو استرداد أرض كان عدو ما قد احتلها، أو ليساعد الشعب في التصدي لكارثة طبيعية، مثلما فعل الجيش الألماني مؤخراً، في أثناء الفيضانات، والمشاركة في تلقيح الشعب ضد كوفيد 19.. ولكن، في سنة 1970 استخدم حافظ الأسد وحدات من الجيش للاستيلاء على الحكم في سوريا، وعليه فإن نظام حافظ الأسد (مثل مختلف الأنظمة التي نتجت عن انقلابات عسكرية في أي مكان من العالم) لا يمتلك شرعية دستورية، ولا قانونية، ولا أخلاقية، ولكن المجتمع الدولي، بدوله وهيئاته ومؤسساته، تعامل مع هذا النظام على أنه أمر واقع، (مثلما يتعامل مع مختلف الأنظمة الانقلابية)، فمنحه شرعية كاملة غير منقوصة، ولكنه بقي، في نظر شرائح واسعة من الشعب السوري، نظاماً ديكتاتورياً، مجرماً، مستهتراً بأرواح الناس، وأموالهم، وممتلكاتهم، وحرياتهم، ويجب أن يحارَب ويقتلع بكل الوسائل.
نرجع، الآن، بالزمن إلى سنة 2011، ونتساءل: عندما (ثار) قسم كبير من الشعب السوري على نظام الأسد؛ هل كان ذلك لأجل أن ننتزع مناطق قليلة من سيطرة النظام، ونحكمها نحن، ونطلق عليها اسم "المناطق المحررة"؟
أميل، أنا محسوبكم، إلى استخدام مصطلح "الانفجار" مكان "الثورة". كان حرياً بـ المنفجرين، في اعتقادي، أن يحولوا الانفجار، خلال السنوات المريرة التي مرت علينا، إلى ثورة حقيقية، ذات أهداف وأخلاق وسلوكيات ومرجعيات مدروسة، ومحددة، يجري العمل على تنفيذها وفق منهجية واضحة.. أتساءل الآن: لو أن هذا حصل، هل يعقل أن يوجد بين أهداف الثورة، وأدبياتها، ومرجعياتها، بند واحد ينص على أن تتحول سوريا إلى دولة مجزأة، يقع بعض أجزائها تحت سيطرة قسد، والثاني تحت سيطرة الجيش الحر المدعوم من تركيا، والثالث يحكمه الثلاثي الروسي الإيراني الأسدي، والرابع يحكمه فصيل من تنظيم القاعدة؟
أعتقد أن الأصدقاء والزملاء الذين سيقرؤون هذه الهواجس سيردون علي قائلين إن الشعب السوري الثائر لا يَدَ له بكل ما جرى، فهناك ظروف داخلية وخارجية بالغة التعقيد، أدت إلى قدوم دول وأفراد وميليشيات لها أجندات متضاربة إلى سوريا، احتلت أجزاء من البلاد، إما بالقوة، أو أعطيت لهم من بشار الأسد لقاء مشاركتهم إياه في قتل الشعب المنفجر.. وهذا، في المحصلة، وضعٌ كارثي يجب علينا جميعاً أن نسعى للخلاص منه.
أرد، ببساطة، أنْ نعم، صحيح، بل ويمكننا الحديث عن عوامل أخرى كثيرة.. ولكن دعونا نركز على سؤالنا الأساسي: لماذا نسمي بعض المناطق الخارجة عن سيطرة نظام الأسد "المحرر"؟ هل نقبل نحن أن تقوم القوى التي تحتل مناطق أخرى من البلاد بإطلاق تسميات عليها تدل على الانفصال، أو على اقتطاع أراض من سوريا وحكمها أو إلحاقها بدول مجاورة؟
بمعنى آخر: هل تهمنا وحدة سورية أم لا؟
ترى الباحثة ليلى الرفاعي، كذلك، أن سبب الحفاوة التي لقيها الشيخ أسامة الرفاعي، في المحرر، تعود لكونه أحد أهم رموز المشيخة الشامية.. وترسم صورة (ليست سارّة، برأيي) للتنافس على السيطرة على المجال الديني في الشمال، بين: المجلس الشرعي في حلب وريفها، والثانويات الشرعية (مقرها تركمان بارح)، وإدارات الأوقاف والإفتاء والشؤون الدينية التي أنشأت في كل بلدة رئيسية.. المديريات المحلية مسؤولة عن إدارة الأوقاف، وتعيين العاملين في المساجد والمفتين، وتنظيم دروس تحفيظ القرآن، ومراقبة خطب الجمعة، تحت إشراف عام ودعم من وقف الديانة التركي، كما شجع المجلس الإسلامي الحكومة السورية المؤقتة (الذراع التنفيذي للائتلاف) على إنشاء جسم خاص بالحكومة يحاكي بهيكليته ووظيفته وزارة الأوقاف السورية..
ملاحظات:
أولاً- الدين، بالنسبة للإنسان، يشبه الصحة، أو جهاز المناعة، أي أنه موجود، ويعمل بشكل جيد، ولكن قلما يظهر، أو نتحدث عنه، والإنسان المسلم في هذا العصر يستطيع أن يعرف كل شيء عن دينه من خلال شاشة الموبايل الصغيرة.. فلماذا، بالله عليكم، كل هذه المؤسسات، والإدارات، والهيئات، والجهات، والمدارس والمؤتمرات التي لا عمل لها غير تقديم وجهات نظر متضاربة عن الدين؟ ولماذا يُعَنّي شيخ جليل، له تاريخ في مقارعة نظام الاستبداد كأسامة الرفاعي نفسَه، ويذهب، بحماية فصيل من الجيش الحر مدعوم من تركيا، لزيارة هذه المنطقة، ويفتتح مقراً للمجلس الإسلامي؟
ثانياً- كان هناك، عبر التاريخ - بحسب اطلاع محسوبكم - اختلاف في طبيعة المرجعيات الدينية (أو المشيخيات إذا شئتم) السورية، بين دمشق من جهة، وحلب وحماة من جهة أخرى، وكانت دمشق تمثل الإسلام المعتدل، المدني، السلمي، الأقل تشدداً حيال المرأة (السباعي، العطار، البوطي، جودت سعيد، محمد حبش...) بينما كان مشايخ حلب وحماة أقرب إلى الإسلام الراديكالي، الجهادي. من هنا استغربَ كلُّ مَن سمع خطبة الشيخ أسامة الرفاعي ذلك العداء للمرأة الذي جعل خياله يفرز حكايات لا يصدقها طفل في اللفة، حول تفكير الغرب الإمبريالي بخطط معقدة، وصرفه مبالغَ كبيرة من المال، في سبيل إفساد المرأة المسلمة المسكينة التي تعيش في منطقة صغيرة، منسية من العالم، هي هذا الشمال (المحرر).
ثالثاً- وأخيراً، إنه لمؤسف جداً أن يكون رجل سوري ذو شعبية واسعة، ومركز اجتماعي يمكّنه من أن يحدث الناس عن الثورة، والوطن، والتسامح، وضرورة تنظيم البلاد، وإيلاء حرية الفكر ما يليق بها من اهتمام، والعلاقة المتبادلة المحترمة مع شعوب العالم، وأنصار الديانات الأخرى.. ولكنه، بدلاً من ذلك، يركز حديثه على ضرورة رفع نسبة الاضطهاد للمرأة، وكأن الذين سبقوه إلى هذه المنطقة مقصرون في هذا المجال.