icon
التغطية الحية

الشقيقان صيدناوي.. حكاية سوريّة صنعت مجدها في مصر وأطاح بها التأميم

2024.06.21 | 15:37 دمشق

آخر تحديث: 21.06.2024 | 15:37 دمشق

5677786
+A
حجم الخط
-A

هي لقطة عابرة في فيلم اللص والكلاب للمخرج كمال الشيخ المأخوذ عن رواية بنفس الاسم لنجيب محفوظ، تدخل فيها نور (شادية) إلى بيتها، الذي تؤوي فيه الرجل الذي تحبه سعيد مهران (شكري سرحان) الهارب من الشرطة التي تبحث عنه، وبيدها كيساً يحمل علامة تجارية باسم صيدناوي (نسبة إلى قرية صيدنايا شمال دمشق)!

يسأل المشاهد السوري الذي يرى فيلما مضى على إنتاجه أكثر من 62 عاماً عما رآه، ويحاول استيضاح الصورة، من خلال مصادر المعلومات المتاحة، فيُصدم من الحكاية التي لا يعرفها كثير من أبناء جلدته، بينما يعرفها جزء صغير من المصريين أيضاً بعد أن غطت أفاعيل الزمن على معطياتها.

لكن، ما الفائدة التي يمكن أن يجنيها المرء هنا، من العودة إلى ما قبل عشرات السنين من حياة مشتركة بين السوريين والمصريين؟

ربما ينفع ما نحكيه هنا في توضيح ما يجب أن تعرفه قلة من الناشطين المصريين على شبكات التواصل الاجتماعي، شرعت في الآونة الأخيرة بالحديث عن خطر اللاجئين السوريين، على المجتمع المصري، وأيضاً قد يكون مفيداً للتذكير بأن المصير المشترك بين الشعبين، ليس مجرد عبارة استخدمت في خطابات الناصريين والبعثيين، بل هي تلخيص لحيثيات مادية، ذات طابع اقتصادي، صاغها رجال أعمالٍ وصناعيون وفنانون وكُتاب ومثقفون، وتركوا ورائهم أعمالاً تؤشر على فكرة، لا يستطيع أحد أن يمحيها.

ليس القصد هنا الإطناب في مدح النسغ الذي يجري في العروق المشتركة، فهذا واقع لا يحتاج للمديح، بقدر احتياجه للترسيخ والكتابة عن مقوماته، كي يبقى واضحاً أمام الجميع، وضمن هذا التوجه، يمكن قراءة التقارير التي ينشرها الصحفيون عن نشاطات السوريين في "أم الدنيا"، ويصير من المفيد أيضاً تأصيل ما يتحدثون عنه، ومن بينها ما نشره موقع تلفزيون سوريا، قبل أيام، عن مساهمة القوى الفاعلة السورية، في تطور صناعة النسيج، والذي يستدعي ذكر تجربة الأخوين صيدناوي الثرية في الاقتصاد المصري.

تقول الحكاية التي يرويها جرجي زيدان في مؤلفه "تراجم مشاهير الشرق في القرن التاسع عشر" أن سليم صيدناوي المولود في دمشق سنة 1856، لعائلة معروفة، تعلم مهنة الخياطة الإفرنجية المستحدثة في سوريا، بناء على رغبة والده، وظل يعمل فيها حتى انتقل إلى مصر سنة 1879، بعد أن سبقه إليها بعامين أخوه الأصغر سمعان والذي كان قد عمل سابقاً في محل تجاري بدمشق، وعمل عند عمه نقولا، والذي كان بدوره تاجرًا يبيع الحرائر والخردوات.

وبحسب زيدان فإن أعمال سمعان تطورت بعد أن اغتنم فرصة سانحة، توافرت له، عندما توفى تاجر سوري اسمه إلياس جهامي تاركاً أولاداً قاصرين، وكان له محل تجاري أراد الأوصياء تصفيته، فتصدى الشاب الطموح لتصفيته، وعمل على استخدام بعض ما يقبضه من ثمن المبيع، في ابتياع بعض الأصناف، وتصريفها مع سائر البضائع، على أن يكون له نصف ربحها وللمحل النصف الآخر.

عندما وصل سليم إلى القاهرة كانت تجارة أخيه تزدهر، أي أنه وجد المناخ مؤاتياً لدمج حرفته مع العمل التجاري، فاشترك مع "الخواجة" متري صالحاني في محل للخياطة والتجارة، لكنه خسر رأس المال الذي دفعه له أخوه الأصغر، بسبب احتراق المحل، لكن هذا التعثر كان عابراً، إذ سرعان ما تشارك الأخوان في الأعمال ففتحا حانوتًا في الموسكي، وعقدا الشركة رسميًّا باسم "سليم وسمعان صيدناوي" سنة 1879، سرعان ما انتشرت أعمالها، مما جعلهما يتوسعان منذ العام 1913 واشتريا منزلاً قديماً في ميدان الخزندار، وهدماه، ليشيدا مكانه المبنى الذي حمل اسمهما ومازال على مساحة تبلغ 8530 متراً ليكون مجمعاً تجارياً بارتفاع 4 طوابق، يختص ببيع الأقمشة، والمنسوجات المصرية الصنع، والتي كانت تصنع في الورش المملوكة لهما، ثم توالت الفروع في الإسكندرية، والمنصورة، وطنطا وجميع محافظات مصر.

يستطرد جرجي زيدان في مدح الأخوين صيدناوي، لكنه لا يحيط بالقصة كلها، فقد انتهى تدوينه للكتاب خلال فترة صعود تجارتيهما، وفي مثل هذه اللحظات تلتقط العيون محاسن الأشياء، وهي هنا كثيرة، ومن بين ما سرده صاحب مجلة الهلال طريقة عمل الأخوين حيث قال:

"ومن أسباب نجاحهما غير ما تقدم من الأمانة والنشاط واغتنام الفرص حسن الاختيار؛ فقد اختارا العمل، واقتسماه على حسب استعداد كل منهما: سليم للمسواق والإدارة والحسابات، وسمعان لإدارة البيع، ومن تلك الأسباب أيضًا الثبات؛ فقد ثبتا في شغلٍ واحدٍ ثلاثين سنة، وهو الاتِّجار بالحرير والخردوات لم يتحولا عنه، وإنما وسَّعوه بما يلائم أن يكون ملحقًا به، ومنها أسلوب المعاملة، وهما مشهوران باللطف والتواضع، فلا يخرج الشاري ولا البائع من محلهما إلا راضيًا".

وفي سياق تطور عملهما التجاري فإن المصادر تتفق على أن سمعان ظل يحتفظ بالدكان الصغير الذي كان حجر الزاوية في ثروته الطائلة، على سبيل التذكار والتفاؤل. في الوقت الذي كانت تزدهر فيه الأعمال من المقر الجديد حيث "انضم إلى إدارة الشركة فى مقرّها الجديد الخواجة إلياس نجل سليم صيدناوي، بالإضافة إلى كل من يوسف وجورج نجلى سمعان، بعد أن حصلا على الجنسية المصرية، وفى عام 1937، كان اسم الشركة هو "شركة تجارة الأزياء والملبوسات والأدوات المنزلية" برأس مال وصل إلى 215 ألف جنيه ارتفع فى عام 1949 إلى 645 ألف جنيه، بعد انضمام شركاء أجانب واندماج الخبرة المصرية مع الأجنبية في هذا العمل.

التتمة غير السارة في القصة تسربت شيئا فشيئا إلى المشهد ولاسيما مع التحولات السياسية التي شهدتها مصر، وانقلاب الحكم فيها من ملكي إلى جمهوري ممهور بأختام العسكر، الذين أمموا مصالح اقتصادية كثيرة هي عضد الاقتصاد المصري، وقد نال الأخوين حصة كارثية من هذا الإجراء حيث استولت الدولة على 73 فرعاً لشركتهما وأكثر من 65 مستودعاً، لكن "الاشتراكيون" الذين قرروا أن يديروا هذه الفروع بعيداً عن أصحابها، فشلوا في ذلك، وتسببوا في انهيارها كلها، إلى أن قررت الحكومة المصرية دمجها مع شركات أخرى تؤدي نفس الأعمال عام 1967 كمحلات شملا الكبرى ، ومحلات طرابيشي وإسلام الكبرى، وفي 2018 تم دمج شركة الملابس والمنتجات الاستهلاكية (صيدناوي) في شركة بيع المصنوعات المصرية ليصبح الاسم الجديد بعد الدمج : "شركة صيدناوي وبيع المصنوعات".

وقد تشتت شمل أفراد عائلتي الأخوين بعد رحيلهما عن الدنيا، بين لبنان وأوروبا، وقد برز من بين الأحفاد سليم الصغير الذي أصبح عازفاً للبيانو وناقداً موسيقياً يعيش بين القاهرة وباريس، وأيضاً ستيفان صيدناوي المصور والمخرج المقيم في باريس، وكذلك عارضة الأزياء اليسا صيدناوي. غير أن هؤلاء لطما صرحوا للإعلام بأنهم مصريون؛ عاش آباؤهم هنا وشربوا ماء النيل ودفنوا في تراب القاهرة.