تريد إدارة الرئيس بايدن إقناع نفسها، وشركاء الولايات المتحدة، والدول المعنية، والشعوب في آخر القائمة، بأنها قد اتخذت قراراً تاريخياً صائباً، حينما انسحبت من أفغانستان بهذا الشكل الكاريكاتوري، الذي كلف وسيكلف المجتمع الأفغاني ونخبه أثماناً كبرى، وستنعكس ارتداداته ولواحقه على دول المنطقة، إن لم تصل إلى أوروبا وإلى بلاد العم سام ذاتها.
الأمر لا يتعلق بتهديد إرهابي محتمل، لا تخلو تصريحات موظفي الإدارة الحالية من ذكره، ومن تحديد مواضع البؤر التي يمكن أن ينطلق منها، وآخر هذه التصريحات جاء على لسان رئيسة الاستخبارات الوطنية أفريل هاينز التي قالت: "نحن لا نضع أفغانستان في صدارة قائمة الأولويات… بل ننظر إلى اليمن والصومال وسوريا والعراق… هناك نرى التهديدات الأخطر"!
كما أن المسألة لا تتصل بقضية اللاجئين، والحديث عن موجة جديدة من الهاربين الأفغان تضرب أوروبا، فهؤلاء لم ينقطعوا طيلة العقدين السابقين عن القدوم إلى دول العالم المتقدمة، أي أنهم _ حتى في ظل وجود القوات المتحالفة في أرضهم، ومدنهم وقراهم، وتحكمها بقرارات حكومات بلدهم_ لم يروا لأنفسهم مستقبلاً فيها.
لكن مرورهم المعتاد في طرق اللجوء، أي عبر إيران ثم تركيا، والانتقال بعدها إلى أوروبا، بات اليوم تحت الأضواء. ما يعني تركيزاً أعلى من قبل الدول التي تكافح الهجرة غير الشرعية. وقد بدأت ملامح هذا الاهتمام القاتل لحلم الخلاص من الجحيم الأفغاني، عبر اتخاذ تركيا إجراءات أولى، تمنع وصول هؤلاء إلى أراضيها.
الأمر بالأصل يبدأ من السياسات التجريبية للإدارات المتعاقبة، التي يبدو أنها لم ولن تمل من الارتجال، فكلما حل ساكن جديد في البيت الأبيض، سيكون على العالم توقع سلسلة قرارات جديدة، توصله، أو ستدفع به خطوة إضافية نحو الهاوية!
دعكم من أساطير المحللين السياسيين عن دراسات مراكز الأبحاث التي ترسم للولايات المتحدة خطط سياساتها في دول العالم، فلو كانت زمرة السياسيين تقرؤها وتستفيد منها، لما تورطت في كوارث كبرى، كغزواتها لفيتنام ولأفغانستان والعراق، وغيرها!
وبدلاً من ذلك، ربما كان علينا أن نقرأ أكثر فأكثر عن التوائم السيامية التي يشكلها الحزبان الديموقراطي والجمهوري مع الشركات الكبرى، وقطاعات الصناعات العسكرية، وغيرها من الشركات الراسخة في المجالات الحيوية محلياً وعالمياً. فبين هذين العقلين تُتخذ القرارات، وهي آنية، تستند إلى المصالح المتبدلة، وتتغير من حين لآخر، لكنها تنعكس على الآخرين بتغيير المصائر، وبالإبادات والمجازر، فضلاً عن ديمومة الاستبداد، كسرطان يحشّ الشعوب المغلوبة على أمرها.
ليس مهماً للأفغان أو لليمنيين أو للعراقيين ولا للسوريين، شكل وطبيعة علاقة السياسيين الأميركيين ديموقراطيين أو جمهوريين مع كارتلات الصناعة أو شركات المال والسلاح والنفط
ليس مهماً للأفغان أو لليمنيين أو للعراقيين ولا للسوريين، شكل وطبيعة علاقة السياسيين الأميركيين ديموقراطيين أو جمهوريين مع كارتلات الصناعة أو شركات المال والسلاح والنفط، المهم لجميع هؤلاء أولاً وقبل أي شيء، ألا يقودهم تحالف المال والسلطة إلى ورطة جديدة سياسية جديدة، تعني في تجليها المحلي حصول حمام دمٍ جديد!
تصريح أفريل هاينز المذكور أعلاه وعلى سبيل المثال، يؤشر إلى دولٍ تشكل بذاتها بؤراً حارة منذ عقود، دفعت القوات الأميركية التي وجدت في بعضها أثماناً مادية وبشرية كبيرة، لكنها لم تنجز أي حل فيها، كما أن هذه البلاد عانت من الإهمال السياسي الدولي، وستعاني منه مستقبلاً على يد هذه الإدارة.
وكرجع صدى للمتفق عليه تجاه فشل هذه السياسة، تنشر جريدة واشنطن بوست مقالة تُراجع فيها، الاحتمالات التي كان من الممكن للعالم أن يكون عليها، في حال لم تقم إدارة بوش الابن بغزو العراق!
لكن في المقابل، لا يبدو أن ما يتم فعله تحت الأضواء هو ذاته ما يجري تحت الطاولة، أو في الغرف السياسية.
إنهم ينسحبون من أفغانستان، تاركينها لقمة سائغة في فم حركة طالبان ذات التكوين المتطرف، وهذا ليس مشكلة طالما أن قادتها يلتزمون بالحدود والخطوط التي رُسمت لهم.
هنا علينا ملاحظة كيف تحاول وسائل إعلام عربية وغربية تسويق الخطوة الأميركية الكارثية، بحجة التغير الذي طرأ على طبيعة الحركة خلال عقدين! بينما تفضح ممارسات أفرادها على الأرض ولاسيما قتلهم للمعارضين، وقمعهم للنساء وجلدهن، وضرب الصحفيين، إذ لا شيء تبدل، في الطبيعة التكوينية التي لا تتغير!
ربما كان الحديث عن إيران كداعم لإرهابيين لا يقلون شأناً عن تنظيم القاعدة وغيره، سيزيد في مشكلات مسار التفاوض حول الاتفاق النووي شبه الميت
وبالنظر إلى الحديث عن أن سوريا واليمن والعراق هي بؤر الإرهاب المحتملة، أو القائمة، كيف يمكن فهم مثل هذه التحديدات، دون توضيح المكامن الحقيقية التي تتسبب بوقوع أفعال دموية تهدد مصالح الولايات المتحدة؟!
أليس من الوجاهة تحديد الجهة المتورطة في صناعة كوارث البلدان الثلاثة؟ ربما كان الحديث عن إيران كداعم لإرهابيين لا يقلون شأناً عن تنظيم القاعدة وغيره، سيزيد في مشكلات مسار التفاوض حول الاتفاق النووي شبه الميت، ولكن هل المشكلة هي إعلامية، وتتعلق بذكر إيران في التصريح الصحفي؟! أم أن القضية أعمق من ذلك، وتتصل برغبة غير معلنة ببقاء حال إيران على ما هو عليه، منذ ثورتها الإسلامية عام 1979؟
من الواضح أننا إزاء مرحلة كارثية جديدة على مستوى دول المنطقة، والعالم أجمع، تتسيد فيها قوى طموحة كروسيا والصين وإيران ودول أخرى في بقاع متعددة على الكوكب، مقابل انسحاب الأوربيين وقبلهم الأميركيين من الجغرافيا الحارة، والانكفاء على الداخل، ومراقبة ما يجري خارجاً، دون الإتيان بأي أفعال عملية، تمنع خضوع الملايين لأنظمة تقوم بإرهاب شعوبها، فتقتل وتبيد، ولا يفسد ود مصالحها مع الآخرين تصريح عن انتهاك حقوق الإنسان هنا، أو تنديد عن قتل النساء هناك!