من الضروري والمهم أن ينشأ ويتطور مسار تعاضد الشتات السوري في مختلف المجالات وعبر مختلف الوسائل. شتاتٌ جديدٌ أنتجته مأساة المقتلة السورية بدءاً من 2011 ويضم ملايينَ من السوريات ومن السوريين الذين اضطرتهم ظروف القمع والتدمير والإفقار إلى اللجوء إلى بلدان الجوار أو إلى ما هو أبعد. وقد عرف السوريون تجربة الشتات الأولى منذ قرن ونيف حينما اختار الآلاف منهم، لأسباب اقتصادية وسياسية ودينية، ترك بلاد الشام والذهاب إلى أقصى المعمورة في جنوب أميركا ليستقروا فيها وينشطوا.
حُققت وحررت بحوث سوسيولوجية وأثنولوجية لا بأس بها عددياً ومتميّزة نوعياً بخصوص الشتات السوري في القارة الأميركية عموماً وفي جنوبها على وجه الخصوص. وقد عالجت هذه النصوص، وأغلبها حرره باحثون أجانب، مختلف الأبعاد السياسية كما الاقتصادية كما الثقافية التي ميّزت تطور مسار هذا الشتات السوري في أميركا الجنوبية تاريخياً للتوقف عند دوره المعاصر. في المقابل، فالموجة الجديدة من الشتات التي نحن الآن في خضمّها، فما زالت تحتاج لعمل بحثي جاد بعيداً عن حصر الاهتمام بموضوعها بمتابعة ما ينجم عن الترويج الإعلامي المتكرر والمتكاثر والذي يكتفي في غالب الأحيان بعرض نجاحات وإنجازات أفرادها.
تساعد وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة على توفير مادة دسمة تعكس في غالب تعبيراتها وتوجهات متنوعة لمجموعات من هذا الشتات
وبانتظار الوقت الكافي لإنجاز هذا المشروع البحثي المتناسب مع أهمية هذا الموضوع، يجدر بالمهتم البدء بمتابعة مختلف منابر التعبير والتي من خلالها يمكن التعرّف ولو جزئياً على نشاطات وتجمعات وتطورات الشتات السوري في أماكن وجودهم الرئيسية. وتساعد وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة على توفير مادة دسمة تعكس في غالب تعبيراتها توجهات متنوعة لمجموعات من هذا الشتات. فإضافة إلى استعراض بعض الإنجازات الدراسية والعملية الناجحة في بعض المنابر، هناك أيضاً مشاركات مفيدة في غالبها لبعض الهموم الاجتماعية والتي تعترض مسألة الاندماج أو هكذا يُخيّل لأصحابها. كما تحتوي هذه المنابر على نصائح يتطوع البعض بتقديمها للمتابعين، خصوصاً إن عبروا تجربة يعتقدون بأنها مفيدة.
ولقد استوقفتني مؤخراً مساهمتان تتعلقان بمسألة الحصول على الجنسية في بلد اللجوء، استند صاحب أولاها إلى الحديث الشريف: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه" ليفسر مشاركته بتجربته الشخصية والتي توّجت بحصوله مؤخراً على جنسية بلد اللجوء. وقد استعرض تاريخه القريب والذي بدأ مع وصوله إلى بلد اللجوء ومتابعته لدورات تعليمية تقنية خوّلته لاحقاً الحصول على عمل مناسب ودائم في مجال تدريبه. وهذا ما ساعده إدارياً للتقدم بملف مكتمل للحصول على الجنسية. وفي تفصيل ذي دلالة يستحق التوقف عنده، يتطرق "المواطن" حديث العهد بجنسية البلد إلى المقابلة الرسمية التي تسبق القرار النهائي، ويبدو أنها تضم عدة أسئلة متعلقة بتقييم طالب الجنسية لبلد الإقامة وارتباطه بقيمها ومفاهيمها وقوانينها. وفي تحديد أدق، ينصح أترابه بأن الإجابة على سؤال من قبيل "لماذا تريد أن تكون مواطناً لهذه الدولة" يجب أن تحظى بإعجاب الطرف السائل ولا يجب أن يرد فيها أي بعد سلبي أو حتى فاتر الحماس قد يؤثر سلباً في القرار. حيث "يجب أن تكون أجوبتك كلها معهم وليست ضدهم.. ويجب أن تظهر لهم أنك مهتم بأن تصبح مواطناً في هذه الدولة". هذا تقريبا ما أراد قوله بعد نقله من اللهجة المحكية إلى الفصحى.
أما المساهمة الثانية والمرتبطة بنفس الهدف: الحصول على الجنسية، فقد عبّرت عن خشية "مشروعة"، حيث إن صاحبها قد أشار إلى استقباله لموظف معني بملف الجنسية زاره في البيت وبأنه نسي أن يخفي الدلالات الدينية التي يحتويها منزله من نصوص قرآنية معلٌّقة على الحائط أو نسخة القرآن الكريم المتروكة على الطاولة.
الدعوة إلى اجتراع إجابات تكون "معهم" وليست "ضدهم" قد تُفسّر بأنك لن تكون "منهم" أو لا تريد
إن تمعّنا في المساهمة الأولى، فقد نقرأ فيها دعوة إلى توجيه الإجابات بما يُرضي السائلين بعيداً عن مصداقيتها المُحبذة. مما يحيلنا إلى تقييم سلبي مبدئياً لهذا الأسلوب غير الصريح في إعطاء السائلين ما يحبون أن يسمعوه من إجابات. فالدعوة إلى اجتراع إجابات تكون "معهم" وليست "ضدهم" قد تُفسّر بأنك لن تكون "منهم" أو لا تريد. والحصول على الجنسية في المطلق يجعل منك مواطناً كما هم، أما في حالتك فهي سعي للحصول على "جنسية" مهما كانت هروباً ـ شرعياً ـ من واقع مرير حلّ بك وبأقرانك. وبالتالي، فأنت غير معني بهذا البلد وبمصالحه وبالانتماء الحقيقي له. والجواب على هذا التقييم السريع والذي يكاد يكون متسرعاً، بأن طالب الجنسية من أصحاب اللجوء ليس في وارد أن يخوض، في هذه المرحلة على الأقل، في مفهوم المواطنة واستحقاقاتها وواجباتها بالمعنى العميق. وربما يكمن الأمل في أن يحمل أولاده هذا الشعور لاحقاً. أما فيما يخص المساهمة الثانية، فهنا الملاحظة تعني الطرفين، المانح والممنوح، أكثر من المساهمة الأولى التي ترتبط بخيار ذاتي ربما يتغير مع الزمن. فخوف الإنسان من إشهار معتقده أو حتى مجرد خشيته من أن يؤثر هذا الاشهار غير المتعمد على التقليل من حظوظه في الحصول على جنسية منشودة، يدل على أن بلد اللجوء يُعاني من علاقة ملتبسة مع مبدأ حرية الاعتقاد، وإن ورد في مواثيقه التأسيسية. وكلا المساهمتان تستحقان التوسع علمياً في التحليل وفي الاستنتاج.