لا شك في أن إبراز المكانة الاستراتيجية لسوريا الطبيعية في العهد العثماني تحتاج لمزيد من البحث والكشف في الدراسات التاريخية في المجال العربي. وهي كغيرها من البقاع العثمانية تتكون من مجموعة من الأقاليم الإدارية المترابطة والمتفاعلة مع بعضها داخليًا، وغير المنفصلة عن إقليمها المحيط في العراق التي هي لها علاقة بالحدود الإيرانية من جهة، ومع الأناضول المكون من عدة ولايات هو الآخر المعتبر قلب الدولة.
احتلّ الإنكليز مصر عام 1885 على إثر توغل النفوذ الفرنسي في شمالي أفريقيا قبيل هذا التاريخ، وهزيمة الدولة العثمانية في الحرب الروسية 1878 وما تلاه من محاولة تمدد النفوذ الروسي في الأناضول. كان الإنكليز يسعون إلى منافسة الفرنسيين وكبح جماح النفوذ الروسي في المنطقة. وضمن هذه الفترة كان جودت باشا هو الوالي على سوريا. أضف إليه حادثة تولي الشاب عبد الحميد الثاني سدّة الحكم حينها.
ملابسات تولية الوالي المصلح مدحت باشا على سوريا
اشتغل السفير الإنكليزي الجديد في إسطنبول (بين 1877-1880) هنري لايارد على مدّ النفوذ الإنكليزي بكل الوسائل. ووجد في مدحت باشا الذي نفاه السلطان (في شباط/ فبراير 1877) إلى أوروبا خيارًا جيدًا كي يُرشّح لدى السلطان لهذه الوظيفة. أي وظيفة الوقوف بوجه روسيا والقيام ببرنامج إصلاحي ما، لكون بريطانيا كانت من مؤيدي إصلاح الدولة على العكس من روسيا التي كانت تؤكّد على تقليدية الدولة وحكمها ما قبل التنظيمات. بالطبع لا يُحسم الأمر هنا تمامًا على هذه الشاكلة ولكنه التوجّه العام لكل من هاتين القوتين العظيمتين حينها.
وبصرف النظر عن كون آثار ضغوط السفير لايارد آتت أكلها أم لا، ولكن يبدو أن الخطة التي أرادها الإنكليز نجحت، ووافق السلطان على إرجاع مدحت باشا من المنفى (في كانون الأول/ ديسمبر 1878) ليعزل جودت باشا من ولاية سوريا ويعين الأول مكانه. رغم أن لايارد أراد تعيين مدحت في ولاية أناضولية ليكون أكثر تأثيرًا في مواجهة النفوذ الروسي إلا أن الفراغ الذي حلّ في سوريا بدا كأنه ضربة عصفورين بحجر واحد.
ساهم مدحت باشا بافتتاح مدارس تعليم للمسلمين قبالة المدارس التبشيرية، ووضع الأساس الحديث للمكتبة الظاهرية العتيقة في دمشق، وتوسعة ميدان المرجة، وإنشاء سوق مدحت باشا
وقتها بدا كأن الرياح تجري بما تشتهي السفن، إذ كان الشهير خير الدين التونسي مستلمًا الصدارة العظمى (الحكومة العثمانية)، وهو من مؤيدي الإصلاح في الدولة، وهذا يعني أنه سيدافع عن سياسة مدحت باشا في إصلاحات سوريا والذي كان له السبب في تعيين السلطان عبد الحميد الثاني في سدّة الحكم على نية إعلان القانون الأساسي والمشروطية (الحكم الدستوري) ومجلسيّ الأعيان والمبعوثان، ولكن تراجع السلطان عن هذا الإعلان جعل من خير الدين ومدحت وغيرهما أحلافًا في مواجهة سياسة السلطان المطلقة، وهذا في نهاية المطاف يصبّ في مصلحة السفير لايارد بكل تأكيد.
منجزات مدحت باشا في سوريا
لا شك أن خبيرًا مثل مدحت باشا لم يكن فقط عالمًا بما يجري في مركز الحكم بحكم تجربته في تولي وظائف في المركز على رأسها الصدارة العظمى، بل وكان واليًا في العراق وكذلك في البلقان فلديه تجربة ليست سهلة بالطبع. فهو ساهم في تجديد عملية الانتخاب في المجالس المحلية، تأسيس بنية إدارية جديدة في الولاية من السناجق وحتى النواحي مرورًا بالأقضية (هي بُنى إدارية مخصوصة)، وهذا ساعده في التخلص من العصيان في الدولة مثل تسكين تقلبات الدروز على الدولة.
كان مدحت باشا يتصرّف بكامل حريته في ولاية سوريا في تأسيس تلك الإصلاحات، فلم يكن يعتمد كثيرًا على الأوامر التالية لتعيينه على الولاية، وهكذا هو طرز ونسق ولاة التنظيمات ما قبل الفترة الحميدية، فهو ساهم باسمه بافتتاح مدارس تعليم للمسلمين قبالة المدارس التبشيرية، ووضع الأساس الحديث للمكتبة الظاهرية العتيقة في دمشق، توسعة ميدان المرجة، إنشاء سوق مدحت باشا وغيرها من الحدائق وحتى الطرق المعبّدة بين طرابلس وحمص ودمشق من جهة، وبين صيدا ودمشق من أخرى، وبالطبع طريق "الترام واي" بين مركز طرابلس ومينائها.
صراع المركز والطرف مكانة الشام في قافلة الحج
لطالما عانت قافلة الحج المارّة عبر البر من النهب والسلب القائم من طرف البدو التي كانت بدورها تسبب المشكلات للدولة من الناحية الأمنية والمالية أيضًا. هنا اقترح مدحت باشا القيام بتغيير مسار القافلة القادمة من إسطنبول إلى دمشق لكي تقضي شهر رمضان في الشام، ومن ثم تنطلق إلى مكة المكرمة عبر الحجاز، بأن يُدرس مشروع الاعتبار بالخطّ البحري (بيروت - جدّة) لتقليل تلك المشكلات عن كاهل الدولة.
وصله الجواب "بعدم جواز الاقتراح حفاظًا على شأن الخلافة الجليلة وآثار السياسة الإسلامية" بذريعة ضرورة مرور هذه القافلة عبر البرّ بغية إظهار الدولة سطوتها وقوتها وعدم تراجعها، ولعل القيام بدراسة حول الخلاف بين (شرعية قبول اقتراح مدحت الذي بات ينشر مشاريعه الإصلاحية باسمه من جهة، وشرعية المركز في نشر مركزية الدولة من أخرى) من شأنه أن يبرز مكانة الشام لدى الدولة ومدى محاولة هيمنة الدولة على الشام كذلك.
الشام: مأتم الأفراح ومقبرة الإصلاح
كان لمدحت باشا بطبيعة الحال علاقة ملحوظة بالقناصل والدبلوماسيين الأجانب في سوريا الطبيعية أي في كل بلاد الشام وعلى رأسهم أكبر مؤيدي تولّي مدحت على ولاية سوريا الذي هو قنصل بيروت الإنكليزي جورج جاكسون إلدريدج، وتعدى هذا الأمر إلى التقائه مرة بأحد دعاة "المسيحية العودتية" (عودة اليهود لفلسطين بداعي تسريع لقاء المسيح) البرلماني البريطاني لورانس أوليفانت حين زيارته إلى فلسطين وجوارها، والذي عرض تقديم مشروع لإسكان اليهود في منطقة البلقاء قبل مشروع هرتزل بعقدين من الزمن.
رغم كل ذلك لا يمكن بسهولة الجزم بوجود علاقة تواطؤ -قد يحلو لدعاة نظرية المؤامرة السباحة بها- بين مدحت باشا والدبلوماسيين الأجانب في سوريا الطبيعية. فكما كان يتصرف بفردية في قراراته نوعًا ما دون التنسيق مع السلطة العثمانية المركزية، كان أيضًا لا يفضّل الرضوخ لسلطة أجنبية ما. ويمكن القول بأنه كان يلعب على وتر الضغط المتبادل بين جلب دعم الدبلوامسيين الأجانب ضد المركز والعكس أيضًا. هذا متوافق مع شخصيته ومتوافق مع منطقة فيها تعقيد نسبي متعدد الأطر مثل الشام.
هكذا يبدو أن السفير المذكور آنفًا لايارد أبدى امتعاضه من تصرفات مدحت على حد سواء مثلما كان لدى السلطان بالطبع وأعداء مدحت اعترضاتهم عليه، وهنا قرّر السفير لايارد زيارة سوريا والقدس وسائر المدن والمناطق الشامية ليرى أفعال مدحت عن قرب، وليكون اللقاء الأول بينه وبين مدحت باشا الذي لطالما قام بدعمه سابقًا في رحلة استمرت شهرًا شامل أيام الطريق.
المفترض أن يبدي السفير لايارد اعتراضه لمدحت باشا، ولكنه عاد إلى إسطنبول بنظرة أكثر مخالفة للسلطان، وتحدث بصراحة لما رآه من تغير الأحوال في سوريا، طالب السلطان بتحقيق مطالب الشعب فيها، وأن عدم القيام بإصلاح الأحوال قد يؤدي إلى انقراض الدولة وانقسامها، وأن حركات التحرر والاستقلال على الأبواب لو استمر تدخل المركز بهذه المنطقة المهمة.
لم يبد على السلطان أنه يثق بالإنكليز حتى من أجل مواجهة الروس، ولعل زيارة السفير تلك زادت من توجسات السلطان تجاه مدحت باشا حتّى، وليس فقط تجاه الإنكليز. في ظرف أشهر بين عامي 1879-1880 يتم الإطاحة بثلاثة أسماء مهمة كان لهم الأثر في التعاون ضد جهود السلطان أي تنتهي سفارة لايارد في إسطنبول وولاية مدحت في سوريا عام 1880، وقبلهما بأشهر يتم عزل خير الدين التونسي عن الصدارة.